براءة في عيون متسولة!

TT

أنبت طريقي ـ ذات يوم ـ في إحدى العواصم العربية شابا في العقد الثالث من العمر يرتدي معطفا طويلا، وربطة عنق، ونظارة شمسية سوداء، أخذني بالأحضان قبل أن يخلع نظارته بأسلوب درامي طالبا مني أن أنظر إلى البراءة التي تسكن عينيه لكي أصدقه، وراح يشرح لي ظروف والدته التي ترقد في تلك اللحظة في غرفة العناية المركزة في إحدى المدن القريبة من العاصمة، وقد نشلت محفظته للتو، وعليه أن يلحق بالقطار ليلقي على أمه نظرة الوداع الأخيرة قبل أن ترحل من الدنيا.. فاكتفيت بالنظر إلى عينيه، وحينما لم أجد فيهما شيئا من البراءة ـ التي قال عنها ـ واصلت سيري ومضيت.. وبعد نحو تسعة أشهر من تلك الحادثة كنت اعتصر آخر القطرات في فنجان الشاي الذي أمامي في أحد المقاهي، وإذا بصاحبنا يقف أمامي وجها لوجه فبحلقت في عينيه من جديد، وتركت له فنجاني الفارغ، ومضيت.

ويبدو أن الأسلوب التقليدي في التسول كاصطناع العرج والعمى والخرس لم يعد يجني منه صاحبه سوى الفتات، فالمستقبل اليوم للشحاذ النظيف الذي يرتدي كل ملابس العيد، والقادر على اصطناع حبكة درامية مؤثرة كأولئك الذين تجدهم عند أبواب المستشفيات يحملون «وجوههم البريئة» وحكاياتهم المتقنة، أو أولئك الذين يصطدمون بك في المطارات يحاولون إقناعك بأنهم يبحثون عن جزء من قيمة تذكرة تعيدهم إلى أوطانهم، وقد تجدهم ليلا ـ بعد ذلك ـ في أحد المطاعم الفاخرة في صحبة «فاخرة» ينفقون بسخاء ما جمعوه من صباحات المغفلين.

ومن الشحاذين «خمس نجوم» أولئك الذين يستخدمون التسول الإلكتروني بدلا من العمل الميداني، ولدى هؤلاء شيء من الدراية بعلم النفس، فهم يمتلكون من العبارات ما يدير الرؤوس، فإن كنت أديبا جعلوا منك طه حسين، أو شاعرا جزموا بأنك الوريث الحقيقي لعرش نزار، وإن كنت رجل أعمال نعتوك بالعصامية، أو إداريا وصفوك بالحكمة، فهم أشبه بـ«ما يطلبه المستمعون» يعزفون لكل شخص الأسطوانة التي تطربه، وقد أدارت رأسي إحدى تلك الرسائل قبل أن أتنبه بأن علي أن أدفع الثمن، فالمرسلة لم تنس أن تضع رقم حسابها البنكي في ختام الرسالة لأحول إليه ما تجود به نفسي!

تداعت كل هذه التفاصيل إلى الذاكرة وأنا أطالع قبل ساعات «الروشتة» الطبية التي حملها أحدهم بجوار إحدى الصيدليات ليستدر بها العواطف، وقد نسي أن يغير تاريخ صدورها فهي تحمل تاريخ 5/11/2006 أي أن المريض إما أن يكون قد شفي أو انتقل إلى رحمة ربه.. وحسبنا الله.

[email protected]