ومن الذي ليس سجيناً؟!

TT

كأن من الضروري أن يدخل الفنان والمفكر السجن، باختياره أو رغم أنفه. ولذلك فالمفكر والفنان يختار العزلة.. يختار الابتعاد والانطواء وراء باب ضيق. وفي هذه العزلة تتولد المعاني.. وفي عالم الحيوان نجد الأنثى إذا حملت انفصلت تماماً عن القطيع وتوارت عن العيون وراحت تلعق نفسها حتى لا تكون لها رائحة تستدرج الحيوانات المفترسة..

وفي الفلسفة وجدنا أن الرهبان في الصوامع أبدعوا الموسوعات والقواميس..

والشاعر الألماني ريلكه يقول إن الأفكار تهبط على الفنانين كما تهبط الأمطار من السحب.. إنه لا يعرف من أين جاءت هذه السحب ومن أي بخار ماء تجمعت قطراتها. ولماذا سقطت هنا أو هناك.

وفي الأساطير الألمانية أن كهف العبقرية لا يدخله إلا من يترك من نفسه وجسمه شيئا. كأن يقطعوا يده أو رجله أو يفقأوا عينه ـ فهذا هو الثمن. والفنان والمفكر والعالم لا يترددون لحظة واحدة في دفع الثمن. فالمكافأة أعظم!

وفي ظلام السجون والوحدة والبرودة والغضب أبدع كثيرون من المفكرين والفنانين والساسة..

فالأديب سرفانتس دخل السجن ثلاثة أشهر بدأ فيها كتابة روايته الرائعة «دون كيخوته».. وفولتير دخل سجن الباستيل وبدأ كتابة ملحمته الشعرية..

وهتلر سجل فلسفته في كتابه «كفاحي»..

ونهرو كتب «لمحات من تاريخ العالم» في سنوات السجن الطويلة..

والرحالة ماركو بولو أملى رحلاته على أحد النزلاء..

وأوسكار وايلد كتب «من الأعماق» وكان قد دخل السجن بتهمة الشذوذ الجنسي فخرج من السجن محطماً مفضوحاً..

وأستاذنا العقاد دخل السجن تسعة أشهر. يقول العقاد:

وكنت جنين السجن تسعة أشهر

فهأنذا في ساحة الخلد أولد

ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجى

وفي كل يوم ذو الجهالة يلحد..

عدائي وصحبي لا اختلاف عليهم

سيعهدني كل كما كان يعهد

والرئيس اليمني أحمد النعمان كان يحفظ شعر الشاعر اليمني الزبيري. ولما دخل السجن في مصر خرج شاعراً ونظم قصيدة واحدة في هجاء الرئيس عبد الناصر.. ولأن القصيدة كانت بديعة تمنيت لو بقي في السجن حتى يجعلها ديواناً!

فكلنا سجناء المكاتب والصوامع والمعامل والزنازين وإذا لم نجد سجناً صنعناه لكي ننشد الحرية من وراء جدرانه وظلماته وبرودته!