انج سعد فقد هلك سعيد

TT

أشرت في مقالتي السابقة إلى ذلك الرجل اللقيط صن شي هوانداي الذي استطاع أن يضع حدا للحروب الأهلية في الصين، ويوحد البلاد بالسيف ويؤسس أعظم إمبراطورية وحضارة في شرق آسيا، في القرن الثالث قبل الميلاد.

شهد العراق أمنا وسؤددا مشابها على يد رجل لقيط آخر، هو زياد بن أبيه. كان الابن غير الشرعي لذات راية اسمها سمية. وكانت جارية للحارث بن كلدة. وقد اعترف بنسبه إليه فيما بعد أبو سفيان. وهو ما يحملني لتصديقه بالنظر إلى ما ورثه عنه من تميز بذكاء خارق، ومواهب عالية وقدرة أدبية نادرة واستعداد واضح للحكم والإدارة. ما أن لمس فيه الإمام علي بن أبي طالب هذه الصفات حتى أسند إليه ولاية فارس، فأحسن إدارتها. وعندما غرق العراق في المنازعات والتقاتل والفوضى بعد مقتل الإمام الحسين، رأى معاوية بن أبي سفيان أن أمره لا ينصلح إلا بمثل هذا الرجل، فكلفه بولاية العراق لوضع حد لما كان جاريا فيه.

وصل البصرة التي لم تكن أقل فوضوية ودموية مما هي عليه الآن، فجمع الناس في المسجد وألقى فيهم تلك الخطبة المجلجلة التي عرفت بالبتراء، لأنه دخل فيها في الموضوع رأسا بدون البسملة التقليدية والصلاة على النبي. وأصبحت الخطبة البتراء لا تقل في شيء، في نظري، كقطعة من الأدب السياسي عن خطبة انطونيو في مسرحية يوليوس قيصر لشكسبير. انطلق فقال:

«وإني لأقسم بالله لآخذن الوالي بالمولى، والقيم بالضاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم حتى يلقى الرجل أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم قناتكم. وقد أحدثتم إحداثا وأحدثنا لكل ذنب عقوبة. فمن غرق قوما غرقناه. ومن أحرق قوما أحرقناه، ومن نقب نقبنا عن قلبه. ومن نبش قبرا دفناه فيه حيا. فكفوا أيديكم أكفف عنكم يدي ولساني».

وقد طبق تهديده بتفسير الريبة والشك لجانب العقوبة على خلاف المتبع في العدل والقضاء بتفسيرها لصالح المتهم. فبعد أن أعلن حظر التجول في المدينة ـ وهي أول عملية منع تجول في الإسلام ـ جاءوه بأعرابي وجدوه سائرا في الطريق. سأله ألم تسمع بمنع التجول؟ فأجاب قائلا إنه كان واحدا من أعراب البدو ولم يسمع شيئا عن ذلك. شردت منه عنزة فجرى وراءها يبحث عنها. قال له زياد بن أبيه أصدقك في ذلك، ولكنه أمر بضرب عنقه ليكون عبرة لمن يعتبر.

وبها عاد الهدوء والاستقرار في المدينة. وباستقرارها استقر العراق وتفرغ الوالي لتجييش القوم وتعبئتهم لاستئناف الفتوحات الإسلامية شرقا فأكمل فتح بلاد فارس وسارت راية الإسلام خفاقة في أعماق القارة الآسيوية.