الدفاع عن «المدانة»

TT

المسلسل السعودي «طاش» يصلح سجلا اجتماعيا يدون اليوميات السعودية، والمزاج السائد، والقضايا الشاغلة للمجتمع، فيما لو رغب مؤرخ ما، بعد عقود من السنين، أن يتعرف على «هذه» السعودية، و«هؤلاء» السعوديين.. أي ان «طاش» هو ديوان السعودية، كما كان الشعر للعرب الأوائل ديوانا اجتماعيا وثقافيا، قبل أن يكون شعرا محضا.

في حلقة بثت بعنوان «المدانة»، نجد تناولا لمشكلة عويصة في المجتمع السعودي، هي مشكلة المرأة، المدانة على كل حال، فهي في الحلقة بنت مطلقة اسمها العنود، يحاول إخوتها الذكور الأربعة فرض زوج عليها، والتخلص منها، كما قال «راشد» الشقيق الموالي في السن للأكبر، إنها «هم»، ولكن البنت المتزنة لا تجد سندا لها إلا في أبيها «الشايب» التقليدي، غير المتوتر ضد المرأة، والفخور بابنته العنود، والذي أكد لها انه سيكون معها ولن يساند إخوتها الذكور ضدها وسيترك لها حرية الاختيار في الزواج، ثم وفي تسلسل معين للأحداث تلقي الصدف المحضة بالبنت في موقف حرج، حيث ترافق أطفال الاسرة للشراء من السوبر ماركت، وحيث انها كانت مصابة بالصداع (إشارة ذكية ربما لكون المرأة صداع المجتمع، والمجتمع صداعها!) فإنها لا تقدر على مواصلة التبضع ومرافقة الاطفال فتخرج للراحة في السيارة ريثما ينتهون، وللمفارقة تكون هناك سيارة «توأم» لسيارتهم، نزل صاحبها للشراء من نفس المحل، ونسي أبوابها مفتوحة، فتدخل السيارة وتنام لشدة تعبها، ويذهب بها صاحب السيارة دون أن يشعر بمن معه، باتجاه البرية للتنزه، وفجأة تنغرس سيارته في الرمال، ومع الصدمة تستيقظ الفتاة لتجد نفسها وحيدة مع رجل غريب في الصحراء، فتصرخ وتصاب بالصدمة، وكذلك «يوسف» صاحب السيارة (عبد الله السدحان، وهنا الإشارة باسم يوسف تعني الإشارة للعفة المطلقة مهما عظمت الإغراءات).

الأب (الذي أدى دوره باقتدار محمد الطويان) يقلق على ابنته ويسأل السائق والأطفال، ولا جواب، فيخبر الأشقاء، الذين يجن جنونهم، وتذهب بهم الشكوك كل مذهب، والأب يصر على الدفاع عن ابنته، لنرجع الى منظر العنود (وهو اسم للظبي المتأبي على الصيد والصعب!) وهي تخاطب يوسف بحذر شديد، وتفهم حقائق ما جرى، ويوسف يخاطبها بدون أي بادرة ضعف ذكوري، بل بكل جدية وعفوية في نفس الوقت، ومع الجوع يأكل من قرص «الكليجا» ويعطي العنود وهي في السيارة وهو في الأرض (الكليجا طعام محلي مائة بالمائة، وربما كانت الإشارة إليه إشارة رمزية إلى أنهم أبناء ثقافة أصلية وليسوا خارجين عليها).

وتمضي الأحداث ويصر الابن الكبير (أدى دوره ناصر القصبي واللافت انه كان طيلة الحلقة هو الوحيد بين إخوته الذي يرتدي ثوبا غامق اللون، إشارة إلى تمثيله للجانب المظلم من الثقافة) وكان هو المصر على افتراض أقبح السيناريوهات، وقد قرر التخلص من العار، حتى ولو لم ترتكب العنود (زهرة عرفات) العار. ونرى الأب وهو على فراش الموت يوصي ـ بحرقة ـ أبناءه على اختهم العنود، ولكن الابن الأكبر لا يبالي على عكس «راشد» (عبد الإله السناني، والإشارة لراشد تعني العودة للرشد)، وبعد ان تعود البنت الى بيت اهلها، توقن بالهلاك، وتوصي ابنة أخيها الأكبر، الطفلة رغد، على ابنها لو حدث لها شيء (ربما كانت إشارة إلى الامل بالأجيال المقبلة والجديدة التي لم تتلوث بالنظرة المريضة للمرأة). وبعد ان يدخل الابن الأكبر ومعه سكين لقتل الأخت وغسل العار «المفترض» يمنعه راشد في اللحظات الأخيرة (أظن أن النهاية كانت مفتعلة نوعا ما).

اعرف أنني أطلت في استعراض الحلقة، ولكن عذري هو أنها كتبت ونفذت بشكل جيد وصادق، وهذا يشكر للكاتب عبد الرحمن الوابلي، فموضوع المرأة موضوع ضخم وكبير، وهو يشي بمدى تورط مجتمعاتنا بقضية المرأة.

هناك حساسية مرضية تجاه المرأة وتجاه أي ظهور علني لها في الحياة العامة، بل وتجاه حقوقها الأولية، فهي كائن غير مرئي في السياسة والتعليم والصحافة والقضاء وكل مجالات الحياة العامة، والمجتمع يعيش في ظل جدران عالية من الفصل العنصري، بحيث تتجاور أطياف الكائنات لا شخوصها الحقيقية.

والحرب على المرأة ليست من التيار الأصولي فقط، بل ربما هذا التيار يكون أكثر تقدما في بعض الحالات، قياسا بتيار أقسى وأعند، وهو التيار الاجتماعي، فكل متوجس من المرأة ومتوتر تجاه أي موضوع يتصل بها، ليس بالضرورة أن يكون منطلقا من منطلق ديني، لأننا نرى كثيرا من المؤيدين لحبس المرأة والتضييق عليها وتهميش دورها في أضيق النطاقات، وتكفير أو تخوين أو رجم من يطرح موضوع المرأة وحقوقها، يأتي من أناس ربما لم يعرفوا طريق المسجد، أو ممن لا يحفلون ببقية أطروحات الإسلاميين والمتدينين في بقية الأمور، كالاقتصاد مثلا. فقد تجد شخصا يحارب أن تظهر المرأة عينيها، وهي في كامل حجابها، فقط عينيها! أو تزاول العمل في أي وزارة أو شركة، ويحتج بفتوى لشيخ هنا او هناك، ولكنك تجد نفس هذا الشخص لا يلقي بالا لفتوى نفس هذا الشيخ في تحريم الاكتتاب في الشركة الفلانية او العلانية، ويذهب، إن كان مهتما، للبحث عن شيخ «ميسر» هنا أو هناك..! وفي هذه الحالة نسأل: من يقود من ؟!

إن من يطالب برفع الحيف عن المرأة، لا يطالبها بأن تكون على غرار المرأة الألمانية او الفرنسية، هذا ليس صحيحا، وهو نوع من الخلط المتعمد، إن من يطالب بإنصاف المرأة إنما ينطلق من حقائق على الأرض.

خذوا لديكم بعضا من بعض الأمثلة:

نسبة المرأة السعودية العاملة لا تصل إلى أكثر من 5.7 في المائة من نسبة القوة العاملة الإجمالية، بينما نسبة النساء إلى الرجال في إجمالي عدد السكان تصل إلى 49 في المائة حسب الإحصاءات الموجودة، كما تؤكد الدكتورة الجوهرة العنقري، عضو لجنة حقوق الانسان السعودية، في حوارها مع موقع بوابة المرأة.

ووصلت العنوسة بين السعوديات إلى أرقام مخيفة حيث تحدث اختصاصيون عن عنوسة مليوني سعودية، لذلك أشار اختصاصيون اجتماعيون إلى أن «آليات المعرفة بالزوجة المناسبة في ظل التوسع العمراني أصبحت معدومة» («الوطن» السعودية 15 سبتمبر الحالي).

ولن نتحدث عن واقع المرأة في التقاضي وتوكيل المحامي، وغياب شخصيتها المستقلة، بسبب معضلة «المعرف» و«ولي الأمر».. بدون أدنى مراعاة لوجود حتى نساء ليس لديهن معرفون و«مكسورات الجناح».

باختصار، نسبة النساء، ومستوى التعليم الذي يحصلن عليه، ولن نتحدث عن المبتعثات أو المقيمات في الخارج وتضخم وتعقد الحياة وحاجات الأسر والنساء.. كل هذا لا ينسجم أبدا مع نوعية الثقافة السائدة في التعامل مع المرأة، كما أن وضع مرافق العمل، الحكومي منه والخاص، لا يعتبر مكانا مرحبا بالمرأة، فإلى أين تذهب النساء ؟!

هذه الثقافة لا تستند حتى إلى ثقافة القدماء العفويين، مثل «الشايب» والد العنود في حلقة «طاش»، والذي استشهد بشعر حميدان الشويعر، وهو شاعر يعتبر رمزا من رموز الثقافة الشعبية، في قصيدة له يحذر الأب من رمي ابنته والاستهانة بها لمجرد التزويج.

فأي ثقافة هذه التي تخنق المرأة ؟ فلا وضع المرأة زمن النبوة كان كذلك، ولا وضعها زمن حميدان الشويعر الذي عاش في ارياف نجد وتوفي حوالي 1180 م كان كذلك، فهل هي ثقافة خداج ومشوهة، شأن واقعنا كله..؟!

ربما كان الأمر كذلك، ولكن النمو المشوه لا ينتج إلا أطفالا مشوهين، هكذا تقول لنا حقائق الاجتماع، وحينها لن نجني إلا «مزيدا» من الشوك.

[email protected]