ساركوزي وديمقراطية الحمض النووي

TT

البصمة الساركوزية يجب ان تطال كافة نواحي الحياة الفرنسية، ولن يكون الرجل سعيداً بانتهاء ولايته أو ولايتيه دون أن يحقق هذا المبتغى. والحق يقال ان لساركوزي أفكارا جهنمية، أغربها على الإطلاق تفكيره بإخصاء أولئك الذين تسول لهم أنفسهم ارتكاب اعتداء جنسي على قاصر. فهذا عقاب له روحية القرون الوسطى، ونشتم منه رائحة أصول ساركوزي الهنغارية. أما مشروع القانون الجديد حول الهجرة، الذي تنزف له الأقلام، وتستعر حوله النقاشات هذه الأيام، ويدرسه البرلمان، فله نكهة أميركية. الفكرة علمية، وتستعير أحدث المكتشفات لتنقية دماء المهاجرين، وتقطيرها من الدنس الذي قد يكون علق بها، ومعضلتها ليست انها غريبة فقط عن جوهر المبادئ الفرنسية، ولكنها تمثل ما يشبه الانقلاب الجذري على قيم الجمهورية، وبعض النصوص القانونية.

ولو اقر هذا المشروع، سيصبح بإمكان أي قنصلية فرنسية ان تلزم رب الأسرة بإثبات نسب أولاده الجيني، كي يتمكنوا من الالتحاق به في فرنسا، بواسطة فحص الحمض النووي الذي يدفع ثمنه صاحب الطلب، لو تم الشك بصحة أوراقه الثبوتية.

وهذه ليست بدعة ساركوزية خالصة، فقد سبق للأميركيين وللعديد من الدول الأوروبية ان مارستها، لكن فرنسا بلد حقوق الإنسان، يثور علماؤه وتحتد جمعياته الحقوقية هذه الأيام لحماية سمعته، من فحص يرتبط بالمجرمين والإرهابيين أكثر من ارتباطه بالأسوياء المهادنين.

ومع ذلك، فإن كل الهرج والمرج اللذين يسودان الصحف الفرنسية، والآراء المثقفة التي تطالب بنسف مشروع القانون، تبدو نافلة أمام الاستطلاع الذي أجري مؤخراً، وبيّن بوضوح لا يساوره شك، ان المواطنين الفرنسيين، ذوي الأهواء اليمينية واليسارية على السواء، باتوا يجنحون بغالبيتهم لقانون صارم يحد من الهجرة، متنازلين عن حساسيات عاطفية وأسرية وأخلاقية قديمة، يبدو ان شراسة الزمن الجديد نهشتها واتت عليها. ورغم ان ما يمكن ان يسمى «لمّ شمل الأسرة» أعتبر حقاً لأي مهاجر منذ العام 1976، وحتى قبل ذلك، فإن المزاج العام لم يعد له تلك الرهافة العتيقة.

النقاش حاد حالياً، هو حول فحص الحمض النووي، وما يمكن أن ينبشه من فضائح لعائلات «مستورة»، وما يمكن أن يتسبب به من خراب بيوت عامرة. وثمة من يسأل إن كان يليق بفرنسا ان تعتمد هكذا فحص، في حالة الشك ببنوة أولاد المهاجرين، فيما يقدّر عدد الأولاد المشكوك بنسبهم في فرنسا بخمسة إلى عشرة في المائة. إلا ان النقطة الأخطر، وما لا يناقش بجدية، هو التغيير الكبير الذي سوف تعيشه فرنسا، لو اقر بند آخر في مشروع القانون الجديد، يسمح بإجراء دراسات تأخذ بعين الاعتبار التنوع العرقي والإثني داخل المجتمع. وهو ما بقي لغاية اللحظة نوعاً من المحرمات، بحيث ان المواطن الفرنسي بصرف النظر عن أصوله، من المفترض انه يذوب في هذا المكون الجمهوري تحت سقف المساواة والإخاء. أما مع الفلسفة الساركوزية فاننا سنرى، قريباً، كتابات ومعلومات وتقسيمات إثنية ذات سمات وقحة، كانت تعتبر عاراً يعاقب عليها القانون.

فحص الحمض النووي بحسب القانون الفرنسي الحالي لا يتم إلا تحت حمى العدالة، والتمييز العرقي حتى بهدف الإحصاء او جمع المعلومات يعتبر خدشاً لمبادىء الثورة الفرنسية. والعاصفة الساركوزية التي تهب على البلاد، ليست عابرة ولا معاكسة للرأي العام، وإنما جاء الرئيس الجديد، محمولاً على رغبات الناخبين، ناطقاً بتطلعاتهم، وتمنياتهم. وبالتالي، فما نشهده من انقلابات له مشروعيته الشعبية، وجذوره الديمقراطية، وأسبابه السياسية والاقتصادية.

ولا يخفى على عاقل، ان الهجرة الأكثر إزعاجاً وإرباكاً هي تلك الآتية، بالأمواج الإسلامية العاتية، وتياراتها المتعاظمة. ولا يمكن لمن يعرف كم المشكلات التي يثيرها المسلمون في فرنسا وغيرها، إلا ان يفهم الحذر الشعبي العارم من مستقبل قاتم. لكن ثمة من يحذر من الآن، ان منع أحد الأبناء من اللحاق بعائلته لن يمنعه من ركوب سفن الموت لقطع المسافة بين ضفتي المتوسط، على أخطارها، وأن كثرة التشديد، قد تجعل التهريب أكثر ذكاء وحنكة مما هو عليه اليوم. ومع أن أحد الصحافيين الفرنسيين الحساسين اقترح أن تتدخل بلاده، لتحديث بعض الأنظمة الإدارية في الدول التي تشك بأن أوراقها الثبوتية يتم تزويرها، بدل ان تفرض على مواطنيها فحوص الحمض النووي، إلا ان هذا الاقتراح على حسن نيته يبدو ساذجاً وعقيماً. فالذي يدفع الناس للتزوير والاحتيال، والهروب من بلدانهم ليس الفساد الإداري، وإنما تدهور الوضع المعيشي. وإن كان العرب والمسلمون بشكل عام، هم أسوأ المهاجرين على الإطلاق، وأثقلهم ظلاً على الغرب، فإن سياسة الحروب المستمرة منذ 11 سبتمبر 2001 والتي يبدو ان حكومة ساركوزي ستصبح من مؤيديها الكبار، بعد الممانعة الشيراكية العنيدة، ستجعل من تزوير فحص الحمض النووي، أسهل من شرب الماء، لو كانوا يعلمون، وستبقى الشروط التعجيزية لإغلاق الحدود، أعجز من أن تحدّ من تدفق البائسين واليائسين.

وإن كان التصعيد الفرنسي ـ الإيراني، الذي أطلقة وزير الخارجية برنار كوشنير، هو مجرد فاتحة حمقاء لحرب جديدة ستشن في المنطقة ـ وهذا هو المرجح على ما يبدو ـ فإن الأجدى بالحكومة الفرنسية أن تبدأ من اليوم ببناء جدار عازل على حدودها، لتتأكد، وبالسرعة القصوى، من أن الإجراء الوحيد الناجع للحد من الهجرة، هو السعي لإسعاد المواطنين في بلادهم الأصلية بدل إجبارهم على الرحيل ولو إلى الجحيم.