مناورات الاستحقاق الرئاسي في لبنان

TT

يقول البعض، همساً، ان «أفشل المؤسسات» في العالم أجمع مؤسسة الزواج. ويقولون، علناً، ان افشلها في العالم النامي مؤسسة الديمقراطية.. أي ان الشرق الاوسط لم يكن ينقصه تذرع الاحتلال الاميركي «بإنقاذ» الديمقراطية في العراق كي يزداد اعراضا عن نظام علته الابرز ارتباط «سمعته» بالسياسة الاميركية.

منذ تكشفت الدوافع الحقيقية للغزو الاميركي للعراق، لم تعد الديمقراطية آخر هموم دول الشرق الاوسط بل آخر هموم الولايات المتحدة ايضا بحيث يمكن الادعاء بأن الديمقراطية ـ بنسختها الاميركية على الاقل ـ كانت أولى ضحايا واشنطن في الشرق.

والمفارقة اللافتة في سيرة الاحتلال الاميركي للعراق أن يتصرف كمن يجدع أنفه.. نكاية بوجهه، فهو لم يكتف بكشف سطحية التبشير الاميركي بالديمقراطية بل اعطى كل الدول التي تتبنى نظام تمثيل برلماني في المنطقة مبررا لمواصلة التزامها بنظام «الواجهة الديمقراطية» المفرغة من المحتوى.

في العراق تبخرت آمال الديمقراطية مع احلام الجيش الاميركي باستقبال شعبي له في شوارع بغداد يبدأ بنثر الزهور وذرّ الارز وينتهي بإحلاله في القلوب والعقول.

مع ذلك، لو اقتصرت حصيلة الاحتلال على فشل «دمقرطة» العراق لهان الامر. ولكن، ان تضطر الولايات المتحدة، بعد اربع سنوات من الاحتلال، الى ممارسة اللعبة العشائرية في العراق.. فهو تطور يبرر تأكيد العديدين أن «خاصية» العراق تأنف الديمقراطية ـ ايديولوجية ونظاما وممارسة.

ربما كانت هذه الخلفية أحد مبررات ظاهرة الفتور المتنامي منذ العام 2005 في مشاعر الشارع العربي حيال الديمقراطية، فكل الدول العربية التي يمارس فيها نظام الاقتراع المباشر تشهد تراجعا ملحوظا في نسبة اقبال المقترعين على «استحقاقاتها» الانتخابية:

* أحدث موسم انتخابي في المغرب سجل اقبال 37 في المائة فقط من مجموع الناخبين على صناديق الاقتراع.

* أما في الجزائر، التي أجرت انتخاباتها التشريعية في مايو (آيار) الماضي، فقد كانت نسبة المقترعين أقل من ذلك ـ 35.51 في المائة فقط ـ أي النسبة الادنى في تاريخ الانتخابات الجزائرية منذ الاستقلال.

* وفي مصر لم تزد نسبة المقترعين على آخر استفتاء دستوري عن الـ 27 في المائة (علما بان احزاب المعارضة وضعته بحدود الـ 10 في المائة فقط).

* وفي لبنان، المعروف بـ«إدمان» ابنائه المعارك الانتخابية، فلم تتجاوز نسبة المقترعين في انتخابات بيروت الفرعية الاخيرة الـ 19 في المائة. وحتى في دائرة المتن التي شهدت معركة حامية وصفت بمعركة «كسر عظم» جاءت نسبة المقترعين فيها دون النسبة المعتادة في انتخاباتها السابقة (48 بالمائة مقابل 52 بالمائة).

قد يكون الإعراض عن النظام الانتخابي في العالم العربي حصيلة قناعة شعبية بان «الامر الواقع» في دوله لا تؤثر فيه الانتخابات النيابية كائنة ما كانت نتائجها. وهذه القناعة ازدادت ترسخا بعد ان شهد العالم العربي كيف عاقب الغرب الديمقراطي الفلسطينيين على خيارهم الانتخابي الحر والنزيه ـ باعتراف الغرب نفسه ـ لحزب لا تروق له سياسته.

هل يصح الحديث عن أزمة نظام عربي في وقت يثبت فيه الغرب ان شعاره العقائدي، الديمقراطية، مجرد شعار مزاجي... يعترف به، فقط، حين لا تتعارض نتائجه مع مصالحه ؟

وعلى الصعيد العملي، هل يصح الحديث عن «دمقرطة» المنطقة العربية ـ ولبنان «الاستقلال الثاني» استطرادا ـ بعد ان أخرجت واشنطن العراق من معادلة موازين القوى الاقليمية وزجت ايران فيها بقوة، فأصبحت القضية الاولى للشارع العربي الحفاظ على ما تبقى من عروبة الشرق الاوسط في وجه الهيمنتين المتربصتين به، الفارسية من جهة، والإسرائيلية من جهة ثانية؟

حالة الاستقطاب الحاد التي يعيشها الشرق الاوسط حاليا ربطت عملية «دمقرطة» دوله بتطورات الصراع العربي ـ الفارسي، وبالتالي بمصير الانظمة الشمولية في المنطقة، وبالصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، وبالتالي مساعي التسوية السلمية المنشودة.

ولأن معطيات الصراعين تتحكم، الى مدى كبير، بـ«استحقاق» لبنان الرئاسي، ستبقى «مناورات» التهديد بالويل والثبور وعظائم الامور طاغية على اللعبة الانتخابية في لبنان ليس الآن فحسب، بل الى ان يحسم صراع الشرق الاوسط.