أبطال «البلاي ستيشن»

TT

استعراض إيران العسكري الأخير المبتهج بالصاروخ الجديد «قدر» الذي يقول الإيرانيون إن مداه يصل إلى أكثر من 1800 كم، وبالطائرات الصاعقة التي يدعون بأنها أفضل كفاءة من طائرات الـ «إف 18» الأميركية! وبالمدرعات الجرارة والجنود.. أعاد إلينا من الذاكرة القريبة استعراضات مشابهة كان يزهو بها صدام قبل احتلال العراق. السذاجة ذاتها والتبجح ذاته بأنه استعد وأعد لمواجهة عدوه.. وفي أيام معدودات «ذاب الثلج وبان المرج»، وتهاوت إمبراطورية صدام المعدة لقتال «العلوج» كبيت من ورق.

كان صدام فرحا (كما جاره الإيراني أحمدي نجاد اليوم) بصواريخ العباس والحسين، ورمى عددا كبيرا منها في إسرائيل، لم يصب هدفا تقنيا أو عسكريا واحدا. وظل صدام يعلن بأنه سيقضي على إسرائيل بالأسلحة الكيماوية والنوعية، وأن لديه أكبر جيش في المنطقة، حتى صدقه العالم واقتنع بأن نظام صدام (القوي) مصدر خطر يهدد أمن المنطقة.. ابتلع صدام الطعم الذي رمى به الأميركيون إليه، بتضخيم صورته الشريرة.. واليوم يمشي أحمدي نجاد على نفس الخطى، ويمد يديه ليلتقط الطعم الأميركي ذاته.

محمد علي جعفري، قائد الحرس الثوري الإيراني، هدد الدول التي قد تساعد الولايات المتحدة في هجوم محتمل على إيران، بأنها ستضرب من قبل إيران وبأنه يعرف نقاط ضعف أميركا وهذه الدول. نقاط الضعف طبعا هي الأهداف الناعمة، أي التجمعات السكانية غير المحمية التي ستكون ضحية تفجيرات انتحارية تقوم بها خلايا نائمة موالية لإيران في الخليج، كما لمّح أحمدي نجاد في تصريحات سابقة. حتى الآن لم يلحظ الإيرانيون أن اللعبة أكبر منهم.. واضح للعيان أن هناك تبادل أدوار أوروبية، فالفرنسيون في هذه الحرب القادمة يلعبون دور البريطانيين في الحرب السابقة.. تصريحات ساركوزي في اجتماعه مع سفراء فرنسا في العالم التي قال فيها إن الوسيلة الوحيدة للقضاء على احتمالية امتلاك إيران للقنبلة النووية هي ضرب إيران، هي تقريبا تصريحات رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير الداعية إلى الحرب في عام 2002. فقبل الحرب على العراق، كان الأميركيون أكثر حذرا في تصريحاتهم من البريطانيين.. الشيء نفسه نجده اليوم في تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس حول التمسك بالخيار الدبلوماسي في التعاطي مع الملف النووي الإيراني، بينما وزير خارجية فرنسا برنار كوشنير، هو الذي يتحدث عن (الخيار الأسوأ) مع إيران، وهو الحرب. المشهد الاستراتيجي بدءا من حديث الجنرال ديفيد بترايوس، قائد القوات الأميركية في العراق، عن حرب بالوكالة تشنها إيران ضد قوات التحالف في العراق، حتى تصريحات باريس عن الحرب، يؤكد أن المواجهة مع إيران باتت حتمية. الحرب عسكريا، بلا شك، ليست في صالح إيران. ولكن من المؤكد أن إيران ستربح بهذه الحرب الشارع العربي، خصوصا في مصر والأردن وفلسطين وشمال أفريقيا. هذه الهيمنة بما يتبعها من تهميش للقيادات العربية، هي ما تسعى إليه إيران حقيقة. بدأ الإيرانيون ذلك في فلسطين ولبنان والعراق، واليوم بحرب محتملة مع الأميركيين (الكفار) تجذب المتفرجين العرب، الإسلاميين منهم تحديدا، وتطبل لها الصحافة القومجية مستخفة بـ (تكاسل) و(تعاجز) و(تواطؤ) الحكومات العربية، سيتم لإيران الأمر، وتصور على أنها رأس الحربة في صدر الغرب الكافر.

وظني أن إسلاميي مصر سيكونون أول المصفقين لإيران، يتبعهم إسلاميو الأردن ثم السعودية.. أي أن إيران ستجيش جماهير دول الاعتدال ضد حكوماتها. إيران ستهيمن (عاطفيا) على العالم العربي في فترة الإعداد للحرب، حتى قبل أن تخوض حربا فعلية مع أميركا.

كل هذا سيكون متلفزا على «البلاي ستيشن» الأولى للأطفال والمراهقين العرب سيستمتعون فيها بالقنابل الكلامية من طراز «حنجوريَ»، يصفقون لصواريخ وهمية ثم يصدمون، كما صدموا يوم سقوط تمثال صدام في بغداد، بصوت ينبعث من «البلاي ستيشن» يقول لهم: Game Over، أي أن اللعبة قد انتهت!

علامات الحرب: علامة أولى: عندما تعلن القاهرة أن مصر ضد أي عمل عسكري يستهدف إيران.. اعرف وقتها أن الحرب قد أوشكت. فالمصريون لا يطلقون هذا التصريح إلا بعد أن تمر في قناة السويس بارجات حاملة للطائرات، وكذلك سفن حربية من نوع تنطلق منه صواريخ «كروز» كافية لإنجاز عمل عسكري ضخم. أعلن المصريون الموقف ذاته عندما مرت من قناة السويس العدة والعتاد الكافي للقضاء على صدام حسين.

علامة ثانية: تتمثل في الموقف الروسي. الروس بما لديهم من أجهزة تجسس متطورة في الأرض والسماء، يشمون رائحة الحرب أسرع من المصريين بكل تأكيد، فحساباتهم أكثر دقة. وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أعلن أن روسيا ضد أي عمل عسكري على إيران.. الموقف نفسه أيضا اتخذه الروس قبل غزو العراق. واضح أن الأقمار الصناعية الروسية قد أكدت لموسكو بالصور أن مسرح العمليات قد اكتمل لتوجيه ضربة إلى إيران، لذا تنأى روسيا بنفسها مبكرا وقبل اندلاع الحرب، حتى لا تتأثر مصالحها في العالم الإسلامي.

الوصاية على لبنان: لا يوجد في القانون الدولي ما يسند دعوتي، وهي فرض الوصاية على لبنان. فأنا أعرف أن المادة 78 من ميثاق الأمم المتحدة، تقول إن نظام الوصاية لا ينطبق على الدول التي أصبحت أعضاء في الأمم المتحدة ويجب أن تعامل على أنها دول ذات سيادة. وإن كانت السيادة تعني شيئا للقائمين على الحكم في الدول الفاشلة لأنهم الوحيدون المستفيدون منها، فماذا تعني السيادة لمائتي ألف إنسان قتلوا في دارفور ولمليوني نازح منها؟ أرقام تقرها الأمم المتحدة وترفضها حكومة البشير. وماذا تعني السيادة لقبائل الهوتو والتوتسي في رواندا عندما نتحدث عن التطهير العرقي؟ وماذا تعني السيادة بالنسبة لملايين الصوماليين الذين هجروا من ديارهم وأكلت جثث بعضهم الحيوانات في شوارع مقديشو؟ لن أتحدث عن أفغانستان أو العراق، فالأمر واضح بكل بشاعته أمامكم على الشاشات.

أحيانا يكون إنقاذ الدول الفاشلة بفرض الوصاية عليها، وإن فقدت سيادتها مرحليا، أكثر معقولية من تركها نهبا يأكل فيها البشر لحوم بعضهم بعضا. لا بد للجمعية العامة للأمم المتحدة وكذلك مجلس الأمن أن يعيدا النظر في موضوع الوصاية والدول الفاشلة.

لبنان على مر تاريخه تعبث به أكثر من عشرين دولة، إذن لماذا لا ينظم هذا التدخل من خلال فرض وصاية لأربع دول كبرى مثلا لتحقيق الاستقرار في لبنان. الوضع في لبنان خطير ولا تحله التصريحات المشتركة لرايس وكوشنير. واضح أن اللبنانيين قد فشلوا في التعايش مع بعضهم البعض.. ولننظر إلى تاريخ لبنان وباختصار شديد حتى تتبين لنا الصورة، وحتى لا نظن بأن ما يعانيه لبنان اليوم هو مجرد حالة طارئة على وضع مستقر اعتاد عليه.

خرج الفرنسيون من لبنان عام 1946، وبعد سنوات قليلة دخل اللبنانيون في حربهم الأهلية الأولى عام 1958. ثم دخلوا الحرب الأهلية الثانية عام 1975، وما بين الحربين دخلت مصر عبد الناصر على الخط باتفاق القاهرة بين الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية الذي انتقص من السيادة اللبنانية بشكل فاضح، ثم دخلت سورية على الخط في عام 1976.. طبعا اللبنانيون هم من طلبوا من السوريين الدخول! ثم ظهر الليبيون في الصورة مع اختفاء الإمام موسى الصدر في عام 1978. ثم كان الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982، وبعد ذلك معارك ميليشيات الشيعة مع أمين الجميل بين عامي 1983 إلى 1985، ثم الصراع الفلسطيني ـ الشيعي في بيروت عام 1985.. وانسحب السوريون أخيرا، وبدأ مسلسل الدماء والاغتيالات، وقوى أكثرية وقوى أقلية، واعتصامات واعتصامات مضادة، ومظاهرات ومظاهرات مضادة، وتحالفات وتحالفات مضادة، وتلفزيونات وتلفزيونات مضادة، وثلث معطل، ومطالبة بتنحي الرئيس، وانتخابات رئاسية، وتصريحات من البطريرك، وتصريحات من سماحة السيد، وتصريح من جبل الدروز وآخر من بعبدا، و... فهل أخطأ الأستاذ سمير عطا الله إذ سماها بالدولة الفالتة؟!

في عالم «البلاي ستيشن» لا يصدق الناس أن ما يسيل على الأرض هو دم حقيقي.. لا بد لقوة خارجية أن تدخل إلى لبنان لتقول لهم: Game Over، أي أن اللعبة قد انتهت!