مرحلة ما بعد اللوبي!

TT

ما كادت قدما السيدة رايس تطآن أرض فلسطين المحتلة حتى قوبلت بقرار الحكومة الإسرائيلية، والذي أتُخِذَ إثر «مشاورات قانونية مطولة» باعتبار غزة «كياناً معادياً» مع كل ما يترتب على ذلك من «نتائج دولية». وبما أن السيدة رايس لا تعرف الآية القرآنية الكريمة: «وكان الإنسانُ عجولاً» فقد سارعت، كعادتها، وفوراً إلى «دعم وتبني وتأييد» هذا القرار، الذي يفضح هو الآخر النفاق السياسي حول «حقوق الإنسان»، و«الحرية»، و«الديمقراطية» الخ، ودون أن تستوقفها جرائم الاحتلال الدموي، وآخرها جريمة سحق جسد الطفل محمود الكفافي بدبابة في مخيم البريج واستشهاد أربعة فلسطينيين معه، كانوا ضمن كوكبة من الأطفال الذين راحوا ضحايا النهم الإسرائيلي للدماء الفلسطينية البريئة التي تُسفَك يومياً في عمليات الاجتياح الوحشية التي تقوم بها الدبابات والجرافات الإسرائيلية ضد شعبٍ أعزل باسم «الحرب على الإرهاب»، فيما هي في الواقع حملة صليبية جديدة هدفها: «الحرب على حقوق الإنسان العربي»، و«الحرب على الحرية» في المشرق العربي. ونقلت كل وسائل الإعلام العربية عملية سفك الدماء هذه بالقول، كما تردده وسائل الإعلام الإسرائيلية: «اشتباكات عنيفة بين المقاومين الفلسطينيين وجنود الاحتلال خلال توغل في مخيم البريج». فنتيجة تنكيل قوات الاحتلال بالإعلاميين والمصورين أصبحت الصورة الصحفية عزيزة جداً، خاصة بعد جريمة اغتيال الجنود الإسرائيليين بدمٍ بارد الطفل محمد الدرة، التي تم تصويرها صدفة وأثارت ضجة في العالم، ولكن الصور القليلة تري أن جرائم اجتياح المخيمات والمدن الفلسطينية تقوم بها دبابات وجرافات وآليات عسكرية تدعمها الهليكوبترات الحربية الأمريكية الصنع والتمويل، وغالباً ما تقوم بقتل متعمد للأطفال والشباب والمدنيين العزل: فهل هذه «اشتباكات» أم أنها جرائم ضد الإنسانية وفق كل المعايير والقوانين الدولية ترتكبها قوة مدججة بأسلحة الدمار الشامل على شعبٍ أعزل من السلاح، وهل هذا «توغل» أم أنه جريمة حرب متواصلة لإبادة السكان العرب الأصليين في فلسطين، خاصة أنها تترافق مع تخريب محاصيلهم، وقتل أطفالهم، ومصادرة أراضيهم، وحصار مدنهم، ونهب اقتصادهم، وتدمير نمط حياتهم. والسؤال ذاته يلاحق القرار الإسرائيلي ـ الأميركي المشترك باعتبار غزة «كياناً معادياً». فهل غزة كيان سياسي أم وجود اجتماعي؟ هل هي كيان أصلاً أم أنها جزء من بلد اسمه فلسطين حل به كيان أوروبي استعماري غاصب يعيثُ في الأرض والسكان والشجر والحجر والمياه تدميراً وقتلاً وتهجيراً، ويستبيح المقدسات، وينتهك الشرائع من أجل تحويل هذا البلد العربي الأصيل، مهد السيد المسيح وموطن الإسراء والمعراج، إلى مستعمرة كبرى تمتد أذرعها بتمويل ودعم حكومة اللوبي الإسرائيلي المسيطرة تماماً على القرار السياسي في الكونغرس والإدارة على حد سواء، لتغيير سحنة الشرق الأوسط السمراء لتتلاءم مع عنصرية قيم الرجل الأبيض، وتغيير وجه الشرق الأوسط من منطقة لتلاقي الديانات السماوية، وتداخل الثقافات، وتشابك الحضارات إلى منطقة كانتونات تروق لنظام تفكير عنصري، يعتمد القوة العسكرية سبيلاً واحداً لإنجاز أهداف آيديولوجية وحشية هدفها الفعلي: قتل وتدمير وتهجير السكان العرب الأصليين، والاستيلاء على أرضهم، ونهب ممتلكاتهم، وتشويه تاريخهم. ولأن حكام الولايات المتحدة وإسرائيل تجمعهم وحدة الفكر العنصري هذا المعادي للعرب، ووحدة أسلوب العنف والقوة الإجرامية المستخدمة لتنفيذ مخطط الكراهية ضد العرب، يصبح المشروع العنصري الأمريكي ـ الإسرائيلي واضح المعالم: ألا وهو تحويل العالم العربي إلى عالم تحكمه قيم تفوق الرجل الأبيض العنصرية، بعد محو هوية هذا الشرق العربي كما توارثتها الأجيال لآلاف السنين. الإعلان الرسمي الأمريكي بدعم وتمويل القرار الإسرائيلي باعتبار قطاع غزة «كياناً معادياً»، والذي هو خطوة لعقوبات جماعية وحرب إبادة جديدة ضد الشعب الفلسطيني، ليس إلا وضع السياسة الحقيقية الأمريكية وهي «الحرب على العرب»، التي تنفذها إسرائيل على مدى عقود، في إطار قرار رسمي. وزير الحرب الإسرائيلي باراك أوضح ذلك حينما دعا إلى: «تكثيف الغارات الجوية، والتصفيات المحددة الأهداف» بينما قال تساهي هانفبي، رئيس لجنة الشؤون الخارجية والحرب في الكنيست الإسرائيلي: «عاجلاً أم آجلاً سيتعين شن عملية واسعة ضد قطاع غزة وحتى ذلك الوقت لا سبب لدينا لتدليلهم ولتزويدهم بالمياه والكهرباء». هذه هي جرائم الإبادة السارية المفعول ضد الفلسطينيين على مدى عقود، وخاصة في العشر سنوات الأخيرة، والتي سيتم تكثيفها بدعم من حكومة بوش وبتمويل من الكونغرس مباشرة. وأرقام الإبادة التالية تفضح أهداف «الحرب على السلام» التي يشنها حكام إسرائيل وواشنطن في فلسطين وحدها: فمنذ انتفاضة الأقصى وحتى 2007 قطعت قوات الاحتلال الإسرائيلية أكثر من مليون شجرة مثمرة، وقامت بتدمير 151 بئراً و300 منزل للمزارعين العرب، كما دمرت 80 مزرعة للدواجن والماشية بنيران المدافع والدبابات والطائرات الإسرائيلية، وجرفت آلاف الدونمات من الأراضي المزروعة. ومنذ عام 1967 صادرت سلطات الاحتلال الإسرائيلية 60% من مساحة الضفة الفلسطينية، وتم بناء 151 مستوطنة إسرائيلية في الضفة والقدس تحتوي على أكثر من 450 ألف مستوطن أوروبي أبيض. وقائمة جرائم قتل الأطفال، والاغتيالات، والاستيلاء على الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل، وتدنيس المساجد، وحرمان الفلسطينيين من الصلاة، لا مجال لتغطيتها في هذا المقال. إذاً جريمة إصدار القرار العنصري الإسرائيلي ـ الأمريكي الجديد باعتبار غزة «كياناً معادياً» قلب المصطلح العربي الذي اعتَبَرَ لعقود إسرائيل «كياناً صهيونياً» أو «كيان العدو» أو «الكيان المُغتَصِب»، وذلك لفرض مفاهيم المستوطن الأوروبي الأبيض على العرب، ولإحداث نقلة نوعية في حرب الإبادة العنصرية التي تشنها كل من إدارة بوش ونظام أولمرت ضد المدنيين الفلسطينيين. لماذا هذا التصعيد النوعي الآن؟ هل هذه هي «الدبلوماسية ذات الأنياب» التي تتحدث عنها السيدة رايس؟ أم أن الأنياب والمخالب المتوحشة برزت من واشنطن وتل أبيب، هذه المرة أيضاً، نتيجة للفرقة التي تنتاب العلاقات بين العرب حتى تنتهي باستباحة الجميع في كل بلدانهم، وقتل أطفالهم، وسرقة تاريخهم، وامتهان كرامتهم دولياً وداخل بلدانهم، ومنعهم من الصلاة في مساجدهم، ومن رفع الأذان في مدنهم العربية؟ ألم يكن مصير حكام بغداد، ومصير نظامهم درساً يدعو الجميع للتضامن أمام الخطر الماحق الذي يهدد الجميع دون استثناء؟

عنصرية السياسة الأمريكية والإسرائيلية ليست اختراعاً إعلامياً عربياً، فهناك العديد من الجهات والمثقفين والمنظمات الدولية التي تقوم بالتنديد بنتائج هذه السياسة من جرائم ضد الإنسانية في فلسطين والعراق ولبنان. فقد دعا مؤتمر المنظمات غير الحكومية التابع للأمم المتحدة، والذي اجتمع في برلمان الاتحاد الأوروبي إلى مقاطعة إسرائيل بعد أن قارنها بنظام جنوب أفريقيا العنصري، قال المتحدثون: إن المقاطعة أثمرت في جنوب أفريقيا وحان الوقت للقيام بها ثانية ضد نظام عنصري ثانٍ هو إسرائيل. وبهذا لن يجدي إسرائيل نفعاً إلغاءها، القرار الذي ساوى بين الصهيونية والعنصرية لأن العالم بدأ يرى، رغم الحظر الإعلامي «الديمقراطي» الشديد في الغرب، الجرائم التي تقوم بها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني. كما أقامت دول أخرى نشاطات دعت بها إلى مقاطعة إسرائيل، وتدرس الآن الكنيسة الهولندية التي دعمت إسرائيل خلال 37 عاماً إعادة تقييم موقفها من إسرائيل. في الآن ذاته أصبح كتاب كارتر، الذي شرح بعض مظاهر عنصرية إسرائيل تجاه العرب من أكثر الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة، كما أن كتاب الباحثين الأميركيين جون ميرشمير وستيفن والت أصبح من أكثر الكتب مبيعاً، ويتم بذلك خرق حاجز الخوف من قول الحقيقة حول تحكم اللوبي الإسرائيلي بقرارات السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط ضد المصلحة الوطنية الأميركية. وتم كل ذلك رغم إجراءات التشهير التي تتبعها منظمات اللوبي الإسرائيلية واتهام من ينتقد سياسة إسرائيل باللاسامية. ومن المهم جداً استذكار ما نشرته صحيفة «الكوريير ديلاسيرا» الإيطالية في 19 سبتمبر (أيلول) الحالي بأن البابا رفض هذا الصيف استقبال كوندوليزا رايس بحجة تمضية عطلته الصيفية رغم أنها أبلغت الفاتيكان أنها تحتاج بشكلٍ ملح إلى مقابلته قبل توجهها إلى الشرق الأوسط، وأنها «ستُسر بإجراء المحادثات وفي رصيدها لقاء مع البابا»، وعدم حصول هذا اللقاء يُري الاختلافات في وجهات النظر حول مبادرات الإدارة الأميركية. إذا كانت رايس تعتقد أن لديها أي رصيد في مبادراتها المعادية للعرب فهي مخطئة، وإذا كانت تتوقع أن تأتي هذه «المبادرات» بشيء سوى إعطاء «أنياب» إجرامية جديدة لقوى الاحتلال والاستيطان فهي مخطئة أيضاً. وإذا كانت تعتقد أن قراءة حقيقة مواقف الإدارة الأميركية المعادية للعرب صعبة اليوم على أحد فهي مخطئة تماماً. فقد رأى العالم بالإضافة إلى دهس أجساد الأطفال بالدبابات، كيف صوتت حكومتا الولايات المتحدة وإسرائيل فقط، وهما من أكثر الحكومات صراخاً حول رفضهما التسلح النووي الإيراني والعراقي والكوري، ضد قرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية بجعل منطقة الشرق الأوسط خالية من السلاح النووي، ورأى العالم كيف امتنعت أوروبا أيضاً عن التصويت. إذاً الإدارة الأميركية وإسرائيل ليستا ضد تسليح منطقة الشرق الأوسط نووياً خاصة إذا كان هذا السلاح موجها إلى صدور العرب ومدنهم.

ورغم كل التعتيم الإعلامي «الحر» الذي تفرضه الحكومات الديمقراطية في الغرب، فالعالم يرى الإدارة الأميركية تقتل بإصرار وحشي المصور والصحافي سامي الحاج في غوانتانامو، كما قتل احتلالها للعراق المئات من الإعلاميين هناك، وهو ما ارتكبته إسرائيل عندما اغتالت توماس هرانديل، وجيمس ميللر (البريطانيَين) وعشرات الصحفيين الذين سيحتفل بهم العالم شهداء فترة الظلم والطغيان السائدة حالياً في العالم.

ولعل أفضل تعبير عما يجري يمكن اقتباسه من قرار هيئة المحكمة التي رفضت دعوى أهل راشيل كوري على شركة الجرافات الأمريكية التي سحق جسدها الغض حتى الموت بلدوزر كاتربلر الإسرائيلي الذي تصنعه الشركة الأمريكية «لا يمكن محاكمة الشركة دون مساءلة، وحتى إدانة، السياسة الخارجية الأمريكية حيال إسرائيل» (جريدة «الغارديان» البريطانية 19 سبتمبر 2007). إذا رفضت هذه الهيئة القضائية ملاحقة هذه الشركة التي ترسل جرافاتها إلى إسرائيل لتدمير المزارع والبيوت العربية، فإن أصحاب الضمائر الحرة في العالم لن يتوقفوا عن ملاحقة مرتكبي الجرائم العنصرية بحق الفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين، ولن يرحم التاريخ تغاضي رايس وليفني وأمثالهما، مهما تشدقوا بتعابير «السلام» و«الحرية» و«الديمقراطية» عن مثل هذه الجرائم ضد الإنسانية. كما سيبقى فيلم «جنين جنين» لمحمد بكري، وقصيدة «عابرون» لمحمود درويش، وعشرات الكتب الأخرى بداية لكرة ثلج سوف تكبر وتكبر.. إلى أن تنتهي بإجماع دولي على إنهاء عار العنصرية المعادية للعرب الذي يلطخ كل السياسات الغربية الداعمة للاحتلال الإجرامي لفلسطين والعراق، والتي تهدد بزعزعة استقرار لبنان والسودان وسورية.