لبنان بين سياسة «التفريغ».. و«ملء الفراغ»!

TT

.. وكأن لبنان منذور منذ الأزل للتضحية من أجل الحرية .. فهو بمسلسل الاغتيالات العبثي لا يزال لم يدفع فاتورة «تضحيته» تلك وكأنه يؤكد ما كان يمثله دائماً «جداراً أخيرا» يأوي إليه الثوار والليبراليون والرفاق المتعبون، وحتى الذين ملوا حياة المعارضة، كل هؤلاء ظلوا يفرون بقناعاتهم الخاصة إلى لبنان الملاذ بمناخه وأرزه وانفتاحه وديمقراطيته.. كما بمؤسساته ودور نشره وشوارعه التي جسدت تلك التعددية وذلك التنوع في عالم بات يختنق من أحادية هوياته المتصاعدة.

يأتي مقتل النائب الكتائبي أنطوان غانم كرابع نائب من كتلة قوى 14 آذار ليطرح أكثر من دلالة ومعنى على الحالة السياسية المعقدة والمتشابكة للبنان اليوم، فانضمامه الى رفيقه في الحزب الوزير والنائب بيار أمين الجميل وإلى النائبين عن بيروت جبران تويني والقاضي وليد عيدو من الأكثرية النيابية لا يمكن أن يقرأ من زاوية انخفاض عدد نواب الأكثرية من 69 الى 68 نائباً، من أصل 128 نائباً هم أعضاء البرلمان، أو تحصر أبعاده في استهداف أجواء التوافق التي رافقت بادرة رئيس البرلمان نبيه بري حول الاستحقاق الرئاسي والدعوات الى توافق الفرقاء على رئيس جديد للجمهورية؛ بل يصح القول إن ثمة أجندة جديدة تتمثل في سياسية «التفريغ» ليس بمعناه الإعلامي كما يطرحه الفيلسوف الفرنسي بورديو في سياق التحذير من دور الميديا السياسي لتكريس الأوضاع السائدة عبر التفريغ السياسي لعقل المشاهد، بل هو تفريغ سياسي كما يطرح في العلوم السياسية عند الحديث عن وضعية «تزاحم القوى» بهدف تفكيك منطق الدولة دون اللجوء إلى تدخل عسكري، هذه الفوضى تعتبر المقدمة لاستراتيجية «ملء الفراغ» والذي يراد الآن تطبيعها في التداول السياسي للتدخلات الإقليمية في محاولة لتخفيف حدة دلالتها الاستعلائية والتهكمية، وكأن الشعوب عاجزة إلى حد الشلل عن ملء فراغها بحيث تظل محتاجة إلى انتهاكات خارجية لسيادتها واستقلالها وحريتها في تقرير مصيرها، وهي أبجديات سياسية يبدو أن من الضروري التذكير بها هذه الأيام في خضم خدمات «التفريغ»

و«ملء الفراغ».

مما لا شك فيه أن سياسة «التفريغ» عبر آلية خلق الفوضى كانت متوقعة إلى الحد الذي لم يأت نبأ الاغتيال مفاجئاً في توقيته حيث تستبد سياسة

«التفريغ» كلما أحست بالخطر من كثافة الاستقرار وتحققه كواقع ملموس له وزنه، وهذا ما حدا بالبطريرك نصر الله صفير إلى إطلاق صيحات النذير حيث اعتبر أن «الوضع العام الذي لا يبعث على الاطمئنان يحمل كثيرين من اللبنانيين، وبينهم نواب ومسؤولون، على مغادرة لبنان الى أوروبا، او الى بعض البلدان العربية سعياً الى الطمأنينة وخوفاً من اغتيال تناول أقران لهم من دون شفقة». كما أن ذلك التوقع حدا برئيس كتلة المستقبل النائب سعد الحريري أن يحرص على عدم تبديد كثافة «الاستقرار» تلك، حيث قال: «سنحفظ الدستور والطائف والديمقراطية وسنذهب للاستحقاق الرئاسي موحدين متضامنين».

وبالعودة إلى نداء الكنيسة المارونية الثامن، فقد كان معبراً عن مدى «حرج» ما آلت إليه الحال اللبنانية حيث اعتبر أن الاستحقاق الرئاسي مسألة وطنية معتبراً من يقاطعها مجرماً بحق لبنان أياً كان المبرر، هذا الاستحقاق لا يمكن أن يأخذ هذه «القداسة» إلا عبر رئيس استقلالي ملتزم يحمل أولوية سيادة الدولة وثوابتها الوطنية كمشروع أساسي من خلال إدارته للعبة التوافق بين الخيارات الصعبة سواء كانت محلية أو إقليمية من خلال تحييد لبنان عن الاستقطاب الإقليمي بمفهوميه الاستبداديين (التفريغ / الملء).

إن لبنان، وهو يخوض معركة الجراحات المفتوحة هذه، بحاجة إلى برنامج «تسوية وطنية» يكفل المشاركة السياسية على كافة المستويات، وهو ما أكده الملك عبد الله في لقائه الأخير بالرئيس السنيورة حين دعاه إلى ضرورة التعامل بايجابية مع مبادرة بري. كما شدد خادم الحرمين الشريفين على ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية بالتوافق بين الافرقاء لأن ذلك وحده هو ما يمنع التدخلات الخارجية.

لبنان من قبل ومن بعد لم ـ وبالتأكيد لن ـ تتشكل شرعيته ومشروعيته السياسية إلا من خلال ديمقراطيته وتعدديته.