من يحاكم الآخر.. الحكومة السودانية أم منظمة العفو الدولية؟

TT

من بين المفاجآت العديدة التي تنسب للسودان، خاصة الجهات العدلية كانت قمتها ما نقله المركز الاعلامي السوداني للخدمات الصحفية من ان وزارة العدل طلبت من الشرطة الدولية اصدار امر بحق «مديرة» العفو الدولية، لان المنظمة قالت في تقرير لها قبل ايام: ان ثمانية رجال اعتقلوا لاتهامهم بمحاولة الاطاحة بنظام الحكم ضربوا وعلقوا من معاصمهم وعذبوا في سجن كوبر في الخرطوم. وقال وزير العدل محمد علي المرضي لـ«رويترز» نحن بصدد اقامة دعوى قضائية ضد هذه المنظمة لإساءتها لسمعة الجهاز القضائي والأمني في البلاد.. ووصف ما ورد في تقرير المنظمة بأنه يدعو للغثيان ولا يعدو ان يكون حلقة من حلقات السخف المستمر والكذب من منظمة لا تهتم بالمصداقية..!

والقصة تعود بدايتها الى شهر يوليو (تموز) عندما قامت الاجهزة الامنية والعدلية في السودان باعتقالات واسعة لإحباط ما وصف بالمحاولة الانقلابية التخريبية الفاشلة، واتهم فيها مبارك المهدي رئيس حزب الامة والإصلاح والتجديد وعدد من معاونيه فضلا عن علي محمود حسنين نائب رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي وضباط متقاعدين.

ومنذ ذلك التاريخ، وحتى الآن، لم تقدم الاجهزة العدلية هؤلاء المعتقلين الى محاكمة ولم تطلق سراحهم، وهذا ما دعا مبارك المهدي الى تقديم عريضة لوزير العدل جاء فيها «ان استمرار حجزي بسواتر اجرائية مخالفة للقانون يعتبر اعتقالا تعسفيا وإصرارا من المستشار لخرق الدستور، وانتهاك حقوق الانسان ووثيقة الحريات المضمنة في الدستور وإنني احملكم المسؤولية القانونية والأخلاقية لاستمرار اعتقالي من دون مبرر قانوني او اتهام». كذلك تقدمت هيئة الدفاع عن المتهمين بشكوى ضد لجنة التحقيق واتهمتها بأنها سلكت سلوكا يتجافى مع القيم والضرورات العدلية.

لكن الحكومة لم تهتم بمطالبتها من جانب منظمات الحقوق المدنية والأحزاب السياسية بإطلاق سراح المعتقلين ولا بالتصريحات التي تقول انه لم تكن هناك محاولة انقلابية في الاصل وإنما اهتمت وبشكل هستيري بتقرير لجنة العفو الدولية وطالبت باعتقال مديرة المنظمة، وهو مطلب لم يسبقها إليه احد من قبل، وهي منظمة تحظى باحترام العالم كله ولا يمكن ان يصدق العقل ان تصدر مطالبة بجلب القائمين عليها للمحاكمة على نحو ما فعلت وزارة العدل السودانية لأنه مطلب غير منطقي وغير معقول، ثم على ماذا تستند الحكومة في دعواها؟

ان المتهمين أنفسهم تقدموا بالشكاوى لكونهم حرموا من حقوقهم القانونية والإنسانية وتظلموا من سوء المعاملة وما زالوا رهن الاحتباس فعلى أي شيء يستند وزير العدل في كيله اقسى العبارات ضد منظمة العفو الدولية؟ ثم ما هي الجهة التي سيخاطبها الوزير مباشرة لاعتقال مديرة المنظمة وبأية حيثيات وتحت أي قانون؟ وما هي الجهة التي ستمثل المنظمة أمامها للمحاكمة؟ أغلب الظن ان وزير العدل يتحدث بانفعال بالرغم من أن موقفه يتطلب وزن الكلام بميزان العدل والاعتدال.

ومثال آخر على موقف الحكومة من المحكمة والمحاكمات، ففي نيويورك قال بان كي مون في مؤتمر صحفي عن طلب المحكمة الدولية تسليمها الوزير السوداني أحمد هارون وعلي كوشيب المطلوبين بتهمة ارتكاب جرائم حرب في دارفور: «ناقشت هذه المسألة مع الرئيس البشير أكثر من مرة في محادثة خاصة، واني افضل ألا أكشف التفاصيل كلها، غير انني سأستمر في اثارة هذه المسألة ومناقشتها».

وعلى الفور، تصدى وزير العدل للأمر وجدد تأكيده عدم وجود أي اتجاه لدى الحكومة للتعامل مع المحكمة الجنائية الدولية أو عقد صفقة معها، وقال: «ما تتخذه المحكمة من اجراءات لا يعنينا في شيء، وهو موقف ثابت الى أن يرث الله الأرض ومن عليها». وهو يعني قطيعة كاملة ونهائية مع المحكمة ومن بعدها مجلس الأمن في الوقت الذي أشار فيه الأمين العام بتحفظ شديد لما دار بينه وبين البشير في هذا الصدد.

وعشية الاجتماع الدولي الذي عقد في نيويورك لبحث مسألة دارفور بمبادرة من الأمم المتحدة يوم الجمعة الماضي، قال مدعي المحكمة الدولية في مؤتمر صحفي: على المجتمع الدولي ان يكون متماسكا في دعمه للقانون والعمل على توقيف المطلوبين وزاد: «أخشى أن يكون صمت المجتمع الدولي حول مذكرتي التوقيف فهم في الخرطوم على انه ضعف في الادارة الدولية للدفاع عن القانون».

وفي أول تعليق لمنظمة العفو الدولية على ما صدر من وزير العدل السوداني: اكدت انها تملك دلائل موثوقة مائة في المائة بوجود عمليات تعذيب في السجون السودانية، عبرت عن دهشتها عزم الخرطوم مقاضاتها وطالبت بفتح تحقيق حول الاتهامات الموجهة للحكومة. وقالت مسؤولة الاعلام في المنظمة بلندن لـ«الشرق الأوسط» عدد الجمعة: ان المنظمة أحيطت علما بعزم الخرطوم رفع دعوى قضائية بشأن الاتهامات وإصدار مذكرة توقيف من الانتربول بحق الأمين العام للمنظمة (أيرين خان) لكنها أي المنظمة لم تتسلم اخطارا رسميا. وعبرت عن دهشتها من الخطوة، وقالت: كنا نتوقع من الخرطوم أن تقوم بفتح تحقيق في الأمر ولكن بدلا من ذلك تريد اسكاتنا وإسكات ثلاث صحف سودانية نشرت عن الموضوع من خلال اجراءات جنائية.. وأضافت: اذا كانت الخرطوم تريد الضغط على مديرة أكبر منظمة حقوقية في العالم فكيف بمنظمات الحقوق المحلية في السودان؟ وأكدت المسؤولة: أن المنظمة لا تستهدف السودان أو أي دولة أخرى وإنما تقوم بواجبها.

تُرى مَن يحاكم مَن؟ هل تحاكم المنظمة حكومة السودان أم العكس؟ الراجح حتى الآن ان المنظمة الدولية هي التي تحاكم النظام السوداني لأنها كما قالت تملك أدلة قوية، ولعل أكبر الأدلة ما نطق به من لحقهم الأذى وبوسعهم اثباته!

والخشية ليست في مَن يحاكم مَن وإنما في تداعيات مثل هذا الهجوم والتهجم القاسي على هذه المنظمة المحترمة، وأولها جر السودان مرة أخرى الى توتر علاقاته مع المجتمع الدولي وبصورة أسوأ مما كان عليه الحال.