«النداء الثامن» لإنقاذ ما تبقّى من لبنان

TT

قبل ساعات معدودات من تنفيذ حكم جديد من أحكام الإعدام الصادرة والمنفذة بحق لبنان واللبنانيين، صدر «النداء الثامن» لمجلس المطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الكاردينال نصر الله صفير.

البعض رأى أنه جاء قاسياً ومباشراً بلهجة غير معهودة من «دبلوماسية» بكركي ولباقتها، بينما رأى آخرون أنه صدر متأخراً أكثر من اللزوم، ولو كان قد صدر قبل نصف سنة ـ مثلاً ـ لربما وفّر على الوطن والمواطنين الكثير من المعاناة، وكشف الغطاء عمّن يتستّرون على القتلة ويشجعونهم على المضي أبعد في إجرامهم وتآمرهم.

في مطلق الأحوال، جاء «النداء الثامن» موقفاً يقطع الشك باليقين لجهة تفكير البطريركية، ويضع المسيحيين اللبنانيين، وبالأخص الموارنة المعنيين مباشرة بانتخاب رئيس الجمهورية، امام مسؤولياتهم. ولكن في الشارع السياسي المسيحي مَن يعتبر نفسه فوق البطريركية.

يعتبر نفسه مرشح الله المختار. مرشح «التفويض الإلهي»!

فهو حسب قوله («الشرق الأوسط» عدد الجمعة 21 سبتمبر/أيلول 2007) «أنا مرشح أنعم الله عليه بدعم غير مسبوق من الشعب اللبناني ... هذه الثقة لا تجيَّر، إنها نوع من التفويض! ...». ثم قال «لن أتخلى (عن الترشح للرئاسة). الانتخاب يبقى وارداً في الأيام العشرة الأخيرة. لا أحد يستطيع أن يرغمني على تكريس سلطة مسروقة. أحسّ نفسي مذنباً أمام الله إذا تراجعت!».

هنا نحن أمام ظاهرة ما عادت بحاجة إلى شفاعة كنيسة ... لأنها فوق الكنيسة.

إنها ظاهرة فوق مستوى البشر. هي نسخة عن يسوع المسيح (الذي هو عند العديد من المذاهب المسيحية ذو طبيعتين بشرية وإلهية)، أو على الأقل ... فتحت خطاً مباشراً مع الله ـ عز وجل ـ وهذه نعمة وبركة لا يحصل عليهما إلا الأنبياء والقديسون.

ولئن كان الحليف التكتيكي على الساحة اللبنانية يضع نفسه تحت توجيه الولي الفقيه وبركته، ولو كان اسمه «حزب الله»، فإن مرشح «التفويض الإلهي» لرئاسة الجمهورية غدا فوقه رتبةً ورفعةً ... والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.

عودة إلى نداء مجلس المطارنة.

أليس لافتاً أن يد الغدر لم تنتظر بعده إلا ساعات قليلة قبل اغتيال النائب أنطوان غانم؟

أليست هذه إشارة واضحة إلى خطة لتسريع وتيرة التصفيات الجسدية؟

هذه الجريمة وغيرها من الجرائم المرتقبة في أية لحظة يجب أن تيقظ من لا يزال غافلاً إلى حقيقة أن مصير لبنان كله أضحى في الميزان. فالجهة الضالعة بالتصفيات أعجز من ان تمضي في عربدتها من دون «حالة داخلية» مساعدة أو متواطئة أو حتى ضالعة بالتنفيذ.

نعم، أية قوة خارجية مهما بلغت قوتها لا تستطيع مواصلة المجزرة البشعة، التي صارت معروفة الأهداف والغايات، من دون «طابور خامس» داخل البلد يغطيها ويستفيد منها ويسهّل مهمة منفذيها ويبرّرها سلوكياً وسياسياً على الأرض ... حتى إذا خجل عن تبريرها صراحةًّ.

كل الكلام الذي سمعناه بُعيد اغتيال أنطوان غانم، ومن قبله وليد عيدو وبيار الجميل وجبران تويني، وما سنسمعه حتماً بمجرد تنفيذ الاغتيال التالي، كلام سمج ونفاقي من العيار الثقيل.

لماذا؟

لأن الحقيقة هي أن التوجه السياسي للنواب المستهدفين بالقتل مُدان ـ عند المعارضة ـ بـ«العمالة» و«التصهين» و«التبعية لفيلتمان (السفير الأميركي في بيروت)».

ولأن المؤامرة لتعطيل الانتخابات الرئاسية مستمرة عبر الاعتصام في وسط بيروت فوق الأملاك العامة وأملاك الغير، وهو اعتصام قابل للتطوير والتسليح في أي وقت، رغم مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري.

ولأن الدمى الاستخباراتية التي تهدّد الناس وتخوّنهم وتهدر دماءهم ... تحظى بالدعم السياسي والإعلامي والتجهيزي والقتالي من قيادة المعارضة وعمقها الاستراتيجي.

ولأن هناك تيارات شخصانية مسيحية مريضة بَنَت شعبيتها الطائفية بين 1989 و2005 على المزايدة وزجّ القوى الاستقلالية والتقدمية مراراً في صدامات عبثية عزّزت قبضة «الدولة الأمنية»... وها هي اليوم دمية في أيدي من صنع «الدولة الأمنية»، وتابع لحلفائها وورثتها.

ولأن المحكمة الدولية المقر تشكيلها لمحاكمة قتلة القيادات الوطنية اللبنانية ... مرفوضة، مرفوضة، مرفوضة ... مهما كان الثمن.

ولأن هناك قوى إقليمية مغامرة متحمسة للتعايش مع الأميركيين والإسرائيليين في المنطقة شريطة تمتعها بـ«الوكالة الحصرية» الإقليمية منهم، ولو على حساب مئات الألوف من اللبنانيين والفلسطينيين الأبرياء. وإن ننسى فهل ننسى تلك المقولة الخالدة «السلام خيارنا الاستراتيجي»(؟!) في سياق «تحسين شروط التفاوض».

نسمع اليوم أن المجتمع الدولي سيتحرّك لإنقاذ لبنان من الانزلاق نحو الفراغ المفضي إلى الفوضى، غير أن كل ما نسمعه جعجعة تحرج الأكثرية وتصِمها بشتى التهم ... من دون طحين يسمن أو يغني من جوع. فالأكثرية ممنوعة أصلاً من أن تكون أكثرية .. فكيف إذا سوّلت لها نفسها أن تكون «أكثرية حاكمة»؟

وحتى هذه اللحظة يقال للبنانيين إن كل القوى الخارجية المتصلة بالوضع اللبناني ـ ربما باستثناء دمشق ـ تتحرك على خط «التوافق»، ولكن مَن قال إن كل اللبنانيين يريدون التوافق، ولا سيما إذا كان البعض ـ كما ورد صراحة في نداء المطارنة ـ قد أنشأ عملياً دولة بديلة عن الدولة ... هي أغنى منها وأقوى عسكرياً.

إن انتخاب رئيس للجمهورية اليوم قبل الغد محطة ضرورية لضمان الاستقرار في لبنان، بيد أن العقدة المزدوجة المانعة تكمن في وجود قوى محلية تريد من أي رئيس مقبل «شرعنة» دولتها شبه المستقلة، وقوى إقليمية هي في الأصل ضد مفهوم وجود الدولة في لبنان، وربما أيضاً في غير لبنان.