لو أنهم يُصغون إلى حكمته

TT

مع حلول اليوبيل الماسي لتوحيد المملكة العربية السعودية على يدي الملك عبد العزيز يوم الأحد 23 ـ 9 ـ 2007، تكتسب قيادة خامس الملوك الأبناء البررة الملك عبد الله بن عبد العزيز رونقاً كثير التميز على صعيد خطة استنهاض في الداخل للهمم مقرونة بخطة نهوض في مجال التنمية والتصنيع تشمل كل مناطق المملكة... وهو ما لاحظْنا ملامح الشروع فيها خلال جولات الملك عبد الله الميدانية على هذه المناطق قبل بضعة اشهر. وبالموازاة مع هذا الاهتمام الذي تتفرع عنه اهتمامات وخطوات تستهدف تلبية مطالب من شأن تحقيقها تخفيف نسبة الجفاف على الصعيد الاجتماعي، يسير الاهتمام بالوضع العربي وأحوال المنطقة الحافلة بكل أنواع التحديات والقضايا الشائكة المؤجل حسم أمرها، ومِن دون أن يربك الاهتمام في الشأنين العربي والإقليمي الاهتمام في الشأن الداخلي، ومِن هنا الشروع في فتح ملفات قضايا عالقة كان تسلُّم الملك عبد الله بن عبد العزيز دفة القيادة كاملة من حُسن حظها كونه يريد للفصل الجديد من الحقبة السعودية على مدى ثلاثة أرباع القرن أن يكون فصل الحسم لاجتهادات وتحفظات تتصل بهذه القضايا.

وحيث أن الاستقرار هو هاجس الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي يرى أن لا ازدهار من دون هذا الاستقرار ولا مجال للتطوير في غيابه، فإننا نلاحظ سعيه الحميد من اجل رأب الصدع في أي بلد عربي أو إسلامي غير عربي فهو خادم الحرمين وهذا يعني أنه في جزء من واجبه الوطني والديني مسؤول عن مليار ونصف المليار مسلم ينتشرون في بلاد الله الواسعة بين القطب والقطب. من هذا المنطلق كانت مبادرته التي استهدفت جمع الشمل العربي على موقف موحَّد من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وذلك لأن السبيل إلى تحقيق المطالب يبدأ بالتوحد وليس بتعدد المواقف، فضلا عن أن إسرائيل والأطراف الدولية التي تحابيها لن يكون من السهل عليها اختراق الموقف العربي الواحد في حين تستطيع النفاذ من خلال تعدُّد المواقف ويكون اختراقها إلحاقا للأذى بالمطالب الحقة.

ونحن عندما نتأمل في ارتياح الرأي العام العربي للإجماع الذي حدث في القمة الدورية الثانية في بيروت (28/3/2002) على تبنِّي أفكار الملك عبد الله بن عبد العزيز في شأن التسوية المتوازنة للصراع مع إسرائيل والتصويت عليها بالإجماع كـ«مبادرة عربية»، يتأكد لنا أن الملك عبد الله كان يقرأ ما يدور في نفوس أبناء الأمة ويستخلص حقيقة أساسية وهي أن ما يتطلع إليه هؤلاء ولو لمرة واحدة هو الإجماع على موقف موحَّد. وهذا الارتياح أفرز مسؤولية مضافة إلى المسؤوليات الكثيرة الملقاة على همة الملك عبد الله ونخوته ونعني بها مسؤولية الحفاظ على هذا الإجماع وتفعيل المبادرة من خلال الزيارات واللقاءات مع رؤساء ومسؤولين في المواقع المتقدمة من الدول الذين إما زارهم الملك عبد الله بن عبد العزيز في سنوات أدائه كولي للعهد المهمات والمسؤوليات الجسام نتيجة مرض الملك فهد بن عبد العزيز رحمة الله عليه، وإما استقبلهم في الرياض أو جدة أو مكة زواراً للمملكة أو مبعوثين في مهمات دقيقة أو حجاجاً لبيت الله الحرام.

ومن أجل الحفاظ على الإجماع وتفعيل المبادرة كان السعي المخلص من جانب الملك عبد الله لرأب الصدع بين أبناء الشعب الفلسطيني خصوصاً بعدما احتكر الساحة شقيقان متباغضان («فتح» و«حماس») وباتت المناكفات بينهما تأخذ شكل العداوة ثم تطورت إلى عمليات مطاردة في الشوارع واقتحامات للمكاتب الرسمية والمنازل.. إلى أن بدأت الدماء تسيل على ارض فلسطين إنما هذه المرة من رصاص بنادق ومسدسات فلسطينية، وبذلك بات المشهد مخجلا ومرعبا في الوقت نفسه ويتطلب ما هو أكثر من النصح والتمنيات، فضلا عن أن أي حديث مع أهل القرار الدولي حول الموضوع الفلسطيني وضرورة اعتماد «المبادرة العربية» حلا أو سقفا للحل كمرحلة أولى، سيكون غير فاعل. وجاء السعي من جانب الملك عبد الله بن عبد العزيز اقتحامياً آخذاً الأمر على عاتقه شخصيا منتقلا إلى جدة ليكون قريباً من الإخوة الفلسطينيين متمثلين بالرئيس محمود عباس وبعض رفاقه من حركة «فتح» وخالد مشعل وإسماعيل هنية ورفاق لهما من حركة «حماس» الذين أرادوا المباركة الروحية للقائهم في رحاب مكة إلى جانب الرعاية الكريمة من جانب الملك عبد الله وإخوانه لهم. وعندما ظهروا عبر الفضائيات يؤدون ما يشبه اليمين على صون الاتفاق ونبذ التباغض، واضعين ذلك في صيغة عهد وميثاق مصدره مكة المكرمة، فإن أبناء الأمتين شكروا كل حيث هو في بقاع الأرض للملك عبد الله سعيه وأزالوا من النفوس مشاعر العتب العميق على الشقيقين الفلسطينييْن اللدوديْن اللذيْن يخوضان غمار مواجهة لا معنى لها ولا جدوى من استمرارها، مستهجنين عراكهم على أرض لم تقم عليها دولتهم التي تسعى مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز لقيامها قبل أن تغيب شمس الولاية الثانية والأخيرة للرئيس بوش الابن الذي أكد غير مرة للملك عبد الله أنه جاد في موضوع حسم الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وبحيث تكون هنالك دولة فلسطينية قابلة للعيش إلى جانب دولة للإسرائيليين.

وكانت صدمة أبناء الأمتين بارتداد «حماس» عن اتفاق مكة من خلال المشهد المهيب للاتفاق في رحاب مكة المكرمة الذي انتهى مشهداً محزناً ومعيباً على أرض غزة التي تعاملت «حماس» معها وفق منطلقات لا يقرها الدين والعقل والالتزام بالكلمة. وبدل أن يكون اتفاق مكة سبيلا إلى وضع أفضل فإن استفراد «حماس»، كي لا نقول احتلالها، لغزة والتعامل معها كما لو أنها رهينة وأن الإنسان يمكن أن يرهن نفسه، كان صادماً. وما زاد من نسبة العتب أن الطيف «الحماسي» الذي فاوض واتفق في رحاب مكة جيَّر الأمر لمن حسدوا السعودية على إنجازها الوفاقي الفلسطيني وشعروا أنه قوَّض لهم ورقة يساومون عليها بعض أطراف المجتمع الدولي لتحقيق مصالح خاصة لهم أو على الأقل لرفع الضيم عنهم، فاندفعوا في اتجاه عملية ينقصها الضمير من جانبهم ورجاحة العقل من جانب مجموعتهم داخل «حماس» وخلطوا من جديد الأوراق بعدما كان قد تم ترتيبها برعاية قائد كريم يريد أن يذكره أبناء القضية المتعثرة بالخير ليس فقط على عطاءات بلده وإخوانه وشعب المملكة في زمن الشدة.. وما أكثرها على مجتمع المخيمات الفلسطينية داخل الأرض المحتلة وخارجها، وإنما على أنه حقق التفافاً عربياً حول القضية، وبذلك لا يعود كل طرف يطرح من الأفكار والاجتهادات ما يروق له. كما أنه حقق التزاماً أدبياً بالمصير الفلسطيني ليس من مصلحة أي حاكم عربي الخروج عليه. وهذا في أي حال لمصلحة الشعب الفلسطيني ومن دون تمييز.

ما قدَّمه الملك عبد الله للفلسطينيين قدَّمه أيضاً للبنان المتنازع عليه وبذل من خلال السفير الدكتور عبد العزيز خوجة جهداً وصبراً وأريحيات لا يعرف اللبنانيون سوى الجزء البسيط منها، لكنهم سيزدادون امتناناً للملك عبد الله بن عبد العزيز عندما سيأتي اليوم الذي تسطع فيه شمس الحقيقة ويحدث الفرز للمواقف، وبذلك سيتبين لكل لبناني كم أن كفة المسعى السعودي الحافلة بالنوايا الطيبة كانت كلما تقترب من النتيجة المرجوة، تقتحم الساحة الأطراف الباغضة واضعة في الكفة الأخرى من الميزان كل ما من شأنه التعطيل عن طريق الاغتيالات أو التعقيد أو الشروط التعجيزية، وذلك لغاية في نفوس أصحابها وأولئك الذين يلقنونهم ما يجب رفضه، لأن عدم ذلك يعني تحقيق التسوية المثالية، ويعني أن الفضل في ذلك سيكون لحكمة الملك عبد الله بن عبد العزيز وحرصه على مداواة محنة كل دولة عربية تعيش حالة صعوبة في العيش المتوازن وفق الأصول، أو تعيش حالة احتراب يتذابح فيها أهل البلد الواحد من دون أن يتنبهوا إلى أي معصية ضد الدين والوطن يفعلون. وما يتمناه المرء هو أن يكون الصوماليون والسودانيون أكثر وعياً من الفلسطينيين، ويستعيد اللبنانيون وعياً مفقوداً، ويتنبه العراقيون إلى أنهم بما يفعلون قد يجدون أنفسهم ذات يوم وقد فقدوا الوطن بالمفهوم المتجرد والذي لا يعود البكاء عليه يجدي.

ونستحضر ونحن نختم هذا الكلام لمناسبة اليوبيل الماسي لليوم الوطني للمملكة العربية السعودية أمثولة الملك عبد الله بن عبد العزيز في القمة العربية الاستثنائية التي استضافها في الرياض يوم 28/3/2007 والنقد الذاتي نيابة عن جماهير الأمة لولاة الأمر من ملوك ورؤساء وأمراء وشيوخ. ففي تلك القمة أطلق ملاحظة كأنها صرخة تمثلت بقوله: «ماذا فعلنا كل هذه السنين. إن اللوم الحقيقي يقع علينا نحن قادة الأمة العربية، فخلافاتنا الدائمة ورفضُنا الآخذ بأسباب الوحدة، كل هذا جعل الأمة تفقد الثقة في مصداقيتنا وتفقد الأمل في يومها وغدها...».

ومنذ تلك القمة ضاعف السعي وزاد من منسوب بذل الجهد لرأب الصدع. لكن يا ليتهم بدل أن ينطق بعضهم «زلات لسان» يصغون بعقل مرتب وقلب مفتوح ومشاعر تفيض بالغيرة على الوطن بدل الغيرة من مبادرات الملك عبد الله بن عبد العزيز الخيِّرة، إلى ما يقوله هذا القائد الذي كان دائماً لا يعمل لدنياه. وهذا سر الالتفاف حوله من أبناء المملكة وتفسير تقدير أبناء الأمتين لسعيه المشكور.