لا تصمد عادة مقولة ان التاريخ يُعيد نفسه. فلكلّ واقعة او حرب ظروفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فعلى سبيل المثال، تبقى طبيعة الحرب هي هي عبر التاريخ. هي صراع لفرض إرادة فريق على فريق آخر. وهي تنهل في مفاهيمها الاساسية من الطبيعة البشرية الثابتة، ثبات ظاهرة دوران الأرض حول الشمس.
إذاً ما هو المُتغيّر في ما خصّ الحرب؟
باختصار، المتغير هو الظروف التي تدور فيها الحروب، وهي: سياسية، اجتماعية واقتصادية. فالحرب على الارهاب، كما حرب الارهاب على الولايات المتحدة الاميركية، تدور في واقع سياسي فريد من نوعه، حيث لا نظام عالمي قائم. كما تدور في واقع اقتصادي يرتكز على العولمة. واخيرا، تدور هذه الحرب في وضع اجتماعي جديد، تمثل في ظهور الحركات الاسلامية التكفيرية، الامر الذي أدّى إلى عولمة الارهاب. يقول المفكر الاميركي طوني كورن، ان عالم اليوم يدور حول الثالوث الآتي: الولايات المتحدة المهيمنة، يقظة العالم الاسلامي، وتحوّل مليار ونصف مليار صيني إلى رأسماليين.
من الاكيد ان القاعدة اليوم هي حركة وليست تنظيما. كذلك اصبح اسامة بن لادن قائدا روحيّا مُلهما فقط. فهو لم يظهر منذ عام 2004 سوى مرّتين، بينما ظهر نائبه ايمن الظواهري نحو 30 مرّة. يُضاف إلى هذا، ان كلّ تهديدات الظواهري كانت قد تُرجمت فعليّا على ارض الواقع: في المغرب العربي، سيناء، الاردن، لبنان واوروبا.
لكن الجدير ذكره هنا، ان القاعدة وعلى صعيد الرعيل الاوّل هي صامدة حتى اليوم، كما استطاعت إعادة ترتيب وضعها. وهي ايضا قادرة على تكليف الرعيل الثاني من القيادة، بمهمّات اقليمية كما في العراق والمغرب العربي. وأخيرا، يبدو ان القاعدة تتبع اليوم الاستراتيجية الآتية:
1 ـ القيادة العامة الاساسيّة موجودة في شمال غرب باكستان. من هناك تُعطى التوجيهات العامة.
2 ـ تُكلّف القيادات من الرعيل الثاني بمهمّات اقليمية، وليس من الضروري ان تكون هوية هذه القيادات من البلد الذي تدور فيه الاحداث.
3 ـ وأخيرا وليس آخرا، يتمّ التنفيذ الفعلي العملاني على أيدي المواطنين في كلّ بلد والمؤمنين بالرسالة.
ولكن أين «فتح الاسلام» من هذا؟ وجدت «فتح الاسلام» قاعدة لها وملاذا آمنا في لبنان (بُعد اجتماعي). كذلك، كانت قيادتها من خارج لبنان، حتى ان أكثر مقاتليها ليسوا لبنانيّين (بُعد العولمة)، لكن المحاور الاساسيّة في قياداتها كانت لبنانيّة.
وهنا، تختلف حال ظاهرة «فتح الاسلام» عما تعتمده القاعدة، كما قلنا اعلاه. وهذا سبب يعود إلى خصوصيّة التركيبة اللبنانيّة. إذاً يمكن القول هنا، ان «فتح الاسلام»، وعلى مستوى التنفيذ، كانت قد لبننت حالتها كي تقوم.
باختصار، «فتح الاسلام» هي النموذج الذي يُقدّم إلى العالم على انه صورة الصراعات المستقبليّة، فهي تكفيريّة ومُعولمة تستغلّ افضل ما توصّلت إليه التكنولوجيا.
ولكن ما صلة «فتح الاسلام» بالقاعدة؟
حسبما توافر حتى الآن من معلومات، لا يمكن ربط هذا التنظيم كلّيا بالقاعدة. لكنه بالتأكيد تنظيم هجين من نماذج القاعدة. وتفيد المعلومات، بأن القاعدة ارسلت من يلزم إلى لبنان لدرس حالة «فتح الاسلام». لكن النتيجة كانت ان «فتح الاسلام» هي « فخّ استخباراتي»، الامر الذي أدى إلى التخلي عنها.
ويقول البعض الآخر، انها تنظيم موّلته جهات اقليمية ولبنانية.
لكن الاكيد ان هذا التنظيم معقد جدا ، ولا يمكن لفريق واحد ان يدير الدفة بدقة وعن قرب، الامر الذي يعني ان حالة «فتح الاسلام» قد استغلها اكثر من طرف واحد.
ويمكن القول ان تركيبة فتح الاسلام تقوم على: الأمير في رأس الهرم شاكر العبسي، نائبا الأمير، مجلس القيادة والهيئة الشرعيّة، وأخيرا قادة المجموعات والمقاتلين.
من المفترض ان يموت الأمير مع آخر مقاتل. لم يحصل هذا الامر. لا بل يبدو ان كلّ قيادات «فتح الاسلام» هي اليوم في مأمن (قبض أخيرا على المسؤول الاعلامي ابو سليم طه). وان الذين دفعوا الثمن هم قادة المجموعات والمقاتلون. وهنا يجب طرح بعض الاسئلة:
1 ـ هل كان فعلا شاكر العبسي في المخيّم؟ في الاغلب نعم، وإلا من سيدير القتال بهذه الشراسة، مع مقاتلين لا يعرفون حتى بعضهم بعضا؟
2 ـ إذا كان فعلا في مخيم نهر البارد، فكيف خرج؟ وهل خرج قبل بدء عمليّة فكّ الطوق بوقت يسمح له بالوصول إلى ملاذ آمن؟ وهل هناك ممرات سريّة لا يعرفها الجيش اللبناني؟
3 ـ أين هي القيادات التي تحدثنا عنها؟ وكيف استطاعت ترتيب خروجها كلّها دفعة واحدة؟
4 ـ وإذا خرجت القيادات كلّها، فكيف تمّ تخطيط هذا العملية المعقدة؟ ومن ساهم فيها من خارج المخيّم؟ وهل يمكن لفريق عاديّ ان يلعب هذا الدور؟
5 ـ لماذا تعرّفت زوجة العبسي على الجثة المُفترضة له؟ فهل تمّ تنسيق الامر قبل خروج العائلات؟ وهل ان خروج العائلات كان من ضمن خطة الهروب.
6 ـ ايضا، كيف يمكن لأحد علماء فلسطين ان يتعرّف على الجثة، بعكس ما اكده فحص الحامض النووي؟ ولماذا عاد وأكد الشيخ ان الجثة تعود للشخص الذي كان يفاوضه في المخيّم؟ فهل كان يقابل شخصا آخر على انه العبسيّ؟
ولعل السؤال أهم هو هل يمكن أن تتكرر التجربة؟
حتى لو كان لبنان بلد العجائب. فلا يمكن ان يعيد التاريخ نفسه. كذلك، لا يمكن تكرار ظروف تكوّن هذه الظاهرة.. لماذا؟
ـ جغرافيا، لا يمكن لـ«فتح الاسلام» العودة إلى شمال لبنان لأن السكان غير موالين، ولأن المخيّم اصبح تحت سيطرة الدولة.
ـ لا يمكن إعادة التجربة في مخيّمات فلسطينية اخرى. فلكلّ مخيّم ظروفه، كما توازن القوى فيه، وخاصة ظروف البيئة المحيطة به. فعلى سبيل المثال، لا يمكن تكرار التجربة في مخيّم عين الحلوة لانها خطرة على المحيط السنّي المباشر، كما هي خطرة على الدائرة الاوسع التي يسيطر عليها حزب الله.
ـ لا يمكن تكرار التجربة، لان القوى الامنيّة اصبحت اكثر وعيا وتجربة مع هذه الظواهر. كذلك الامر، وبعد انتصار الجيش، قد يمكن القول ان الجيش اسّس لصورة ردعيّة مهمّة.
ـ أخيرا، اصبح لدى اللبنانيّين صورة واضحة عن أخطار منظمات كهذه، الامر الذي يعطي القوى الامنيّة ضوءا اخضر للضرب من دون رحمة.
في الختام، إذا كانت حالة «فتح الاسلام» لُبننت لتجد لها ملاذا آمنا، فماذا يمنع تشكّل حالة مختلفة، خاصة ان حالات كهذه تسعى عادة لاستغلال نقاط الضعف في جهاز المناعة السياسي؟ واي جهاز مناعة لبناني؟
* كاتب وباحث
استراتيجي لبناني