المرتزقة: الوجه البشع في العراق «المحرر»

TT

إذا صح أن العراق أصبح أحد المراكز الأساسية لنشاط تنظيم القاعدة، فالأصح أنه أصبح أيضاً أهم مناطق جذب مليشيات المرتزقة، علماً بأن الأولين يفدون إلى العراق أملا في الحصول على الشهادة، أما الآخرون فإنهم أصبحوا يتقاطرون عليه تراودهم أحلام الثراء العريض. ورغم أن الطرفين أصبحا من أبرز معالم الكارثة التي حلت بالعراق بعد غزوه، إلا أن الأضواء مسلطة على ممارسات القاعدة، في حين أن ثمة تعتيماً شديداً على ما تفعله مليشيات المرتزقة. ولولا الأزمة التي ظهرت على السطح مؤخراً بسبب قتل بعض عناصر المرتزقة لأحد عشر مدنياً عراقياً دفعة واحدة، لظل الملف مسكوتاً عنه، ولاستمرت الجرائم البشعة التي يرتكبها أولئك المرتزقة خارج دائرة الضوء والاهتمام.

في الأسبوع الماضي وقعت الحكومة في حرج لأن بعض المرتزقة الذين يتبعون شركة «بلاك ووتر»، ويتولون حراسة الدبلوماسيين الأمريكيين، أطلقوا النار على 11 مواطناً عراقياً وقتلوهم جميعاً، لمجرد الاشتباه بهم أثناء حراستهم لموكب واحد من أولئك الدبلوماسيين، بينما كان يمر بالقرب من ساحة النسور غربي بغداد. كان الحادث صادماً وفجاً للغاية، لأن عملية القتل تمت باستهانة شديدة، حيث عومل العراقيون في هذه الواقعة وكأنهم مجموعة من الحشرات لا بد من التخلص منها ليمر موكبه دون معوقات. وكما نشر على لسان احد العراقيين الذين شاهدوا الحادث، فلو أن هؤلاء كانوا خرافاً أو كلاباً ضالة اعترضت الطريق لما أطلق عليهم الرصاص وأبيدوا بالصورة التي تمت. ولكن لأن حياة العراقيين في نظر هذه المليشيات أرخص من أي شيء، فإن المرتزقة لم يترددوا في إطلاق النار عليهم وقتلهم بدم بارد لمجرد إفساح الطريق لموكب الدبلوماسي الأمريكي.

حين ذاع الخبر وجد رئيس الحكومة نفسه في مأزق، دفعه إلى التصريح بأنه تقرر إنهاء عقد شركة بلاك ووتر التي يفترض أنها شركة أمريكية تعمل في مجال الخدمات الأمنية. وأعلن رسمياً أنه طلب من رجالها مغادرة البلاد حتى إشعار آخر. لكنه لم يكن بمقدوره أن ينفذ شيئاً مما تحدث عنه، لأن الشركة في موقف أقوى منه، وهي التي جاءت بناء على اتفاق مع وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، ومن مهامها حراسة الدبلوماسيين الأمريكيين والمنطقة الخضراء. لذلك فإنه لم يكد يمر يومان حتى قيل إن عناصر الشركة عادوا لمزاولة مهامهم في بغداد، ولتغطية هذا التراجع قيل إن الحكومة تدرس وضع ضوابط لعمل المرتزقة في البلاد.

ورغم أن الأزمة هدأت تقريباً، إلا أن حادث قتل الأحد عشر عراقياً استدعى إلى دائرة الضوء ملف شركة بلاك ووتر، والشركات المماثلة الأخرى، خصوصاً أن بعض المعلومات المثيرة تكشفت أثناء الغضب الذي أعلنه رئيس الوزراء العراقي. فقد تبين مثلاً أن شركة بلاك ووتر تعمل في العراق بلا عقد يمكن للحكومة إلغاءه. وتبين أيضاً أن هذه الشركات جميعاً لها حصانة تحول دون محاسبتها أمام القضاء العراقي، وأن أول حاكم مدني أمريكي للعراق «بول بريمر» أصدر قراراً بهذا المعنى في عام 2003. تبين أيضاً أن الشركة وهي تعمل في العراق المستباح استوردت كماً هائلاً من الأسلحة التي شملت أجهزة للرؤية الليلية والمدرعات، وباعتها في السوق السوداء. وأن رجالها لم يكتفوا بدورهم في الحراسة، ولكنهم اشتركوا في عمليات النهب والسلب، وكونوا عصابات للجريمة المنظمة، وهي الأمور التي تكشفت أثناء التحقيقات التي تجريها السلطات الأمريكية، ليس غيرة على دماء العراقيين وأعراضهم وأموالهم بطبيعة الحال، وإنما للتثبت من مدى التزام الشركة ببنود العقد الموقع مع البنتاغون.

لم يكن ما جرى في ساحة النسور البغدادية هو الحادث الأول من نوعه، الذي قامت فيه عناصر بلاك ووتر بقتل مدنيين عراقيين أبرياء من دون مبرر، ولكنه كان الحادث السادس كما ذكرت بعض الصحف العراقية المعارضة للاحتلال. وهي الصحف التي فتحت بهذه المناسبة ملف جيوش المرتزقة التي أصبحت ترتع في أنحاء البلاد وأطلقت يدها في البلد حيث استباحت كل شيء. وفي ظل الحصانة فإنها ظلت دائماً فوق القانون وفوق أي حساب. (حين فتح الملف ظهرت معالم تلك الصفحة البشعة في سجل الاحتلال. وعرفنا أن مليشيات المرتزقة تقاطرت على العراق من كل صوب بعد الغزو، تحت عنوان مستتر هو «شركات الخدمات الأمنية». ويقدر عددها الآن بحوالي 50 شركة تضم 40 ألف مقاتل، يتقاضى الواحد منهم في اليوم الواحد ما بين ألف وألفين من الدولارات، الأمر الذي يكلف الخزانة العراقية ملايين الدولارات. (العقد الذي أبرمه بول بريمر في عام 2003 مع شركة بلاك ووتر لحماية الدبلوماسيين الأمريكيين كانت قيمته مائة مليون دولار).

هذه الشركات لا تعمل بعيداً عن وزارة الدفاع الأمريكية والمخابرات المركزية، وإنما تكلف بمهام من قبلهما، ليس فقط لتأمين المصالح، ولكن أيضاً للقيام بكافة الأعمال القذرة التي تحرمها الاتفاقيات الدولية أو يحاسب عليها القانون الأمريكي. إلى جانب هذا وذاك فهي تجسد مفهوم خصخصة الحروب. إذ لا بد من أن تخوض الجيوش حروباً خارج حدودها، يموت فيها جنود غير راغبين في الموت، وربما رافضون للخدمة العسكرية أساساً، فإن بعض مهام هذه الجيوش توكل بمقتضى عقود إلى شركات المرتزقة التي تضم مغامرين لا يبالون بالموت في سبيل الثراء الذي يوعدون به لقاء قيامهم بتلك المهام.

الفكرة ليست جديدة، ونشاط المرتزقة تجاوز حدود العراق، ذلك أن للمرتزقة تاريخا طويلا، حتى ينقل الباحث العراقي حسن عبيد عيسى عن بعض المراجع أن أول استخدام للمرتزقة حدث في العام 1288 قبل الميلاد في معركة قادش التي جرت على ضفة نهر العاصي في سورية بين المصريين، يقودهم رمسيس الثاني، والحيثيين بقيادة موتاللو، إذ تضمن الجيش المصري آنذاك جنوداً مستأجرين من الإغريق، من تلك الفئة التي تقاتل مقابل أجور في سبيل قضية لا تعنيها. ويذكر الباحث في دراسة له نشرتها مجلة «المستقبل العربي» (عدد يونيو 2006) أن بلاد الإغريق كانت المصدر الأساسي للمرتزقة في الأزمنة القديمة.

بعد الإغريق دخل الرومان الى الحلبة وورث البيزنطيون تقاليد الرومان في هذا الصدد، كما يذكر الفايكونت مونتجوري في كتابه «الحرب عبر التاريخ». وظلت الاستعانة بالمرتزقة جزءاً من تقاليد الفعاليات الأوروبية، حتى أن الحروب الصليبية كانت في بعض أوجهها مطلباً ارتزاقياً، ويسجل التاريخ أن الحملة الصليبية الثانية وما بعدها اعتمدت بالدرجة الأولى على الرهبان والمرتزقة. وأدركت الكنيسة الكاثوليكية منذ ذلك الحين أهمية تلك الفئة من الناس، لأن الرهبان لم يكونوا مدربين على حمل السلاح، ومن ثم لم يكونوا مستعدين لتحقيق طموحات الكنيسة وتطلعاتها. حتى إرهاصات عصر النهضة ـ أضاف الباحث ـ اضطلع السويسريون بالمهمة التي كان يقوم بها الإغريق. وكان للبريطانيين فرقهم الارتزاقية، وأنعشت الحروب الدينية في أوروبا تجار الارتزاق، وبخاصة في فرنسا، حيث كان البروتستانت هناك يستوردون مرتزقة من ألمانيا وانجلترا لقتال مواطنيهم الفرنسيين الكاثوليك، نظراً للنقص في أعدادهم.

وكانت لبريطانيا تقاليدها في الاستعانة بالمرتزقة، حيث يذكر أن الملك إدوارد تمكن بواسطة جيش من المرتزقة من احتلال اسكتلندا وإيرلندا وويلز، في أواخر القرن الثالث عشر، وجعلها نواة للإمبراطورية. وفي الحرب العراقية البريطانية عام 1941، استقدم الإنجليز مرتزقة من منظمة إرغون الصهيونية كانوا موجودين في فلسطين المحتلة. وتولى الجنرال غلوب باشا رئيس الأركان الأردني وقتذاك تسهيل مرورهم نحو العراق بسرية تامة. ولم تسلم فرنسا من الوباء، حيث لجأت في اجتياحها للجزائر عام 1831 بفرقة ضخمة من المرتزقة أطلق عليها اسم «الفرقة الأجنبية». ولم يكن غريباً والأمر كذلك أن تستعين الولايات المتحدة والمخابرات المركزية بالمرتزقة في فيتنام وأنغولا وأن تستخدمهم في القيام ببعض الانقلابات وكثير من الاضطرابات والقلاقل في أنحاء عديدة من القارة الأفريقية، فضلاً عن أمريكا اللاتينية. ومما يذكره الباحث في هذا السياق أن إسرائيل دخلت على الخط في أعقاب حرب عام 1973، بعدما أعلن الرئيس السادات آنذاك أنها «آخر الحروب». فاتجه نفر من قادتها العسكريين للعمل كمرتزقة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا، وعمل بعضهم في المناطق الكردية بالعراق. ومن أشهر هؤلاء الجنرال رحبعام زئيفي الذي افتضح أمره في الإكوادور، وعاد الى بلاده ليصبح لاحقاً وزيراً للسياحة، ثم يقتل على أيدي رجال المقاومة الفلسطينية.

تطورت المهنة بمضي الوقت. وأصبح للارتزاق شركات للتجنيد تتولى الاستجابة لطلبات الراغبين. ومن أبرز الذين سلكوا هذا الطريق ضابط بريطاني سيئ السمعة ومطرود من فرقة المظليين اسمه جون بانكس، الذي أسس في عام 1975 المنظمة العالمية لخدمات الأمن. وفي الفترة ذاتها ظهر المرتزق العالمي بوب دينار الذي أسس شركة مماثلة نشرت إعلاناً في الصحف يقول «شركة ما وراء البحار للأمن والحماية تبحث عن كوادر ذات خبرة وصحة جيدة وتهدف إلى تكوين جيش طلائعي».

العراق بعد الغزو أصبح قبلة المرتزقة، ويذكر أن أول شركة تأسست لتوفير المرتزقة لمن يريد، صاحبها اسمه جان فيليب لاتوني الذي كان جندياً في البحرية الفرنسية، ثم خدم كمرتزق في ساحل العاج وزائير وجزر القمر وكوسوفو، وبسبب الفوضى التي عمت البلاد التي تزامنت مع غياب الأمن، فإن سوق الحماية الخاصة اعتماداً على المرتزقة وجدت رواجاً كبيراً، ولم يغب الأمر عن الشركات الأمريكية التي دخلت الى الساحة بقوة مؤيدة من البنتاغون والمخابرات المركزية، حتى أصبحت تلك الشركات هي التي تتولى تقريبا كل ما يتعلق بالأمن الداخلي، من تأمين النفط الى حراسة الشخصيات العامة والدبلوماسيين الأجانب.

لم يخل الأمر من اشتباك بين جماعات المقاومة العراقية وبين العاملين الأجانب في تلك الشركات، فقد هوجمت قواتهم في مرات عديدة بواسطة المقاومين. وتم خطف بعضهم وتصفيتهم. ويذكر أن من أوائل المخطوفين أربعة من الأمريكيين العاملين في شركة «بلاك ووتر» تم أسرهم في الفلوجة، وقتلوا وسحلت جثثهم وعلقت فوق جسر المدينة قبل أن تضرم فيها النيران، وردت بلاك ووتر على هذه العمليات بالانتقام من أهالي الفلوجة وتحويل حياتهم جحيماً لعدة أيام. ولم تسلم البلدة من تكرار الاعتداءات الوحشية عليها بعد ذلك.

اللافت في العراق مليء بالتفاصيل المثيرة المسكوت عنها، ذلك أن جيوش المرتزقة جاءت لتقتل وتحصل في مقابل ذلك على أكبر قدر من الأموال. فلم تقصر لا في القتل ولا في النهب والسلب، وظلت طول الوقت محمية بالحصانة وبالغطاء الأمريكي ومستفيدة من عجز الحكومات العراقية التي تولت السلطة بعد «التحرير»(!).