دولة الإخوان الدينية في مصر !

TT

لسنوات طويلة كان موقفي أن صلاح الأحوال في مصر سوف يحدث عندما ينجح الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم في التخلص من تراث الاتحاد الاشتراكي العربي داخله وهو الذي كان حزبا بيروقراطيا أمنيا سلطويا؛ وعندما يتمكن الليبراليون المصريون في كافة صورهم الحزبية ـ مثل الوفد والغد والجبهة الديمقراطية ـ أو الفكرية في المجتمع المدني والصحافة والفكر من الاقتراب من الناس؛ وعندما تتخلى جماعة الإخوان عن فكرة الدولة الدينية التى تدمج بين الدين والدولة فيفسد كلاهما ويصير الأمر كله فاشية من نوع جديد. وأعترف انه خلال نفس الفترة فقد تعرضت لخيبات أمل كثيرة؛ وبينما كان الحزب الوطني على استعداد للتحرك نحو اقتصاد السوق الحرة فإنه كان أكثر بطئا عندما يتعلق الأمر بتداول السلطة في السوق السياسية؛ أما الجماعة الليبرالية فقد مزقتها الخلافات على الأصول والهوامش، وبقيت الليبرالية طوال الوقت أفكارا محلقة يتبناها الجميع في الشكل، أما المضمون فكان منتهكا على الدوام.

أما آخر خيبات الأمل فقد جاءت مع برنامج جماعة الإخوان المسلمين الذي مزق إربا كل المفاهيم المتعلقة بالدولة المدنية التي كان يتحدث عنها ممثلو الجماعة، ثم بعد ذلك وبلا مواربة أقاموا مكانها دولة دينية صريحة. وربما لا يثير ذلك انزعاج أحد، فما أكثر البرامج السياسية التي تطرحها أحزاب وجماعات وفرق، ولكن الحال مع الإخوان مختلف، فلديهم القوة السياسية، ولديهم الفكرة الدينية، ولديهم تجارب ودول منتشرة في الجوار، وبلادنا ومنطقتنا يشيع فيها النزق وسوء الحساب والتقدير!.

وقد أتى برنامج الإخوان في 128 صفحة، وفيه الكثير عن المبادئ والسياسات، ولكن ما يهمنا في المقام مفهوم الجماعة للدولة وأصول الحكم فيها. ورغم أن البرنامج يقول بوضوح ان «الدولة الإسلامية هي دولة مدنية بالضرورة» (ص14) فإنه يعرف هذه الدولة المدنية بأنها تلك الدولة التي تكون الوظائف فيها على أساس «الكفاءة والخبرة الفنية المتخصصة والأدوار السياسية يقوم بها مواطنون منتخبون، تحقيقا للإرادة الشعبية الحقيقية، والشعب مصدر السلطات». ولكن هذا النص لا يمكن فهمه في برنامج الإخوان إلا على ضوء ما سبقه (ص 11ـ12) من أن الدستور ليس هو أساس أو مصدر التشريع وإنما الشريعة الإسلامية التى تصبح وظيفة الهيئات المنتخبة ـ المعبرة عن الشعب مصدر السلطات ـ مجرد تفسيرها، أي تنتفي الوظيفة التشريعية للمجالس النيابية وتحل محلها وظيفة الفتوى.

ولا يترك برنامج الإخوان فيما سبق مجالا للشك حينما يقول في ص 10: «تطبق مرجعية الشريعة الإسلامية بالرؤية التي تتوافق عليها الأمة من خلال الأغلبية البرلمانية في السلطة التشريعية المنتخبة انتخابا حرا بنزاهة وشفافية حقيقية.... ويجب على السلطة التشريعية أن تطلب رأي هيئة كبار علماء الدين في الأمة على أن تكون منتخبة أيضا انتخابا حرا ومباشرا من علماء الدين ومستقلة استقلالا تاما وحقيقيا عن السلطة التنفيذية في كل شؤونها الفنية والمالية والإدارية، وتعاونها لجان ومستشارون من ذوي الخبرة وأهل العلم الأكفاء في سائر التخصصات العلمية والدنيوية الموثوق بحيدتهم وأمانتهم، ويسري ذلك على رئيس الجمهورية عند إصداره قرارات بقوة القانون في غيبة السلطة التشريعية ورأي هذه الهيئة يمثل الرأي الراجح المتفق مع المصلحة العامة في الظروف المحيطة بالموضوع، ويكون للسلطة التشريعية في غير الأحكام الشرعية القطعية المستندة إلى نصوص قطعية الثبوت ودلالة القرار النهائي بالتصويت بالأغلبية المطلقة على رأي الهيئة، ولها أن تراجع الهيئة الدينية بإبداء وجهة نظرها فيما تراه أقرب إلى تحقيق المصلحة العامة، قبل قرارها النهائي ويتم، بقانون، تحديد مواصفات علماء الدين الذين يحق لهم انتخاب هيئة كبار العلماء والشروط التي يجب أن تتوافر فى أعضاء الهيئة».

هنا فإن لدينا هيئة دينية تكون لها المرجعية العليا في القرار على الأقل في الأمور قطعية الثبوت والدلالة، وهي هيئة تقف ضد مبدأ المساواة الذي هو قلب مفاهيم الدولة المدنية، حيث لا تنتخب الهيئة من عموم المواطنين، وبالتأكيد فإنها تستبعد عمدا كل أصحاب الديانات الأخرى بعد أن قصرت حقوقهم على حق العبادة والمشاركة السياسية في بعض الأمور من دون غيرها. والحقيقة أن برنامج الإخوان ينهي تماما مفهوم الدولة المدنية، ويطرح فكرة الدولة الدينية التي تستبعد غير المسلمين من تولي وظائف عامة سواء على أساس من الكفاءة أو الجدارة أو حتى رغبة المواطنين حينما يقرر (ص15) أن للدولة «وظائف دينية أساسية» و«تلك الوظائف الدينية تتمثل في رئيس الدولة أو رئيس الوزراء طبقا للنظام السياسي القائم، ولهذا ترى أن رئيس الدولة أو رئيس الوزراء طبقا للنظام السياسي القائم عليه واجبات تتعارض مع عقيدة غير المسلم، مما يجعل غير المسلم معفيا من القيام بهذه المهمة، طبقا للشريعة الإسلامية، والتي لا تلزم غير المسلم بواجب يتعارض مع عقيدته».

وهكذا فإن البرنامج يكون قد أخل فورا بالقاعدة التي التزم بها في ص 10 حينما قال بالقاعدة «الإسلامية» التي «تقرر أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وهو ما يمثل أسمى قواعد العدل والإنصاف، والمساواة بين المواطنين جميعا بدون استثناء». فقد أصبحت هناك وظائف مثل رئيس الدولة ورئيس الوزراء ـ ومن الجائز ما هو على شاكلة هذه الوظائف ـ ما لا يستطيع المسيحي أو غير المسلم في العموم توليه.

ويكاد البرنامج أن يستبعد غير المسلم من حق الدفاع عن الوطن، وهو ما يفتح الباب ربما لعودة فكرة الجزية مرة أخرى حيث يشير البرنامج بوضوح إلى «أهمية التنويه إلى أن قرار الحرب يمثل قرارا شرعيا، أي يجب أن يقوم على المقاصد والأسس التي حددتها الشريعة الإسلامية، مما يجعل رئيس الدولة أو رئيس الوزراء طبقا للنظام السياسي القائم، إذا اتخذ بنفسه قرار الحرب مساءلا عن استيفاء الجانب الشرعي لقيام الحرب، وهو بهذا عليه واجب شرعي يلتزم به». فطالما أن قرار الحرب قد صار قرارا شرعيا إسلاميا، فإنه بهذه الصفة لا يكون قرارا ممثلا للأمة كلها، ويصبح تجنيد غير المسلمين غير واجب تحت رداء الإعفاء من الواجبات الشرعية الإسلامية، وفى هذه الحالة يكون مقبولا الحديث عن الجزية مقابل الحماية.

كل ذلك يمثل ردة هائلة إلى الوراء في فكر الإخوان المسلمين الشائع، والذي حاول أن يقنعنا خلال السنوات القليلة الماضية أن فكرة المساواة أصبحت من الأفكار الأساسية لدى الإخوان، وأن الديمقراطية أصبحت هي فلسفتهم الرسمية، بل أن «الدولة المدنية» هي أساس الدولة التي يريدون إقامتها، وأن «المواطنة» بكل ما تعنيه في الفكر السياسي الحديث هى جوهر السياسة الإخوانية. وجاءت هذه الردة في الوقت الذى بدا فيه أن التجربة التركية، ومن بعدها التجربة المغربية، تمثل معملا جيدا لاستخدام المرجعية الإسلامية في دولة حديثة وعصرية ومتصالحة مع عالمها ومحيطها، ولكن ما حدث لدى الإخوان المسلمين في مصر فكان خطوة واسعة إلى الوراء، إلى أفكار كانت الجماعة قد أعلنت بأشكال مختلفة تخليها عنها. وإذا كان الدكتور مأمون فندي قد فسر الأمر في مقال له نشره منذ أسابيع على هذه الصفحة بأن كل بلد يفرز إخوانا مسلمين على شاكلته، فإن مصر بما لها من تاريخ في الدولة المدنية الحديثة كانت تستحق إخوانا أفضل بكثير مما حصلت عليه !