عندما (غلب حماري)

TT

جمعتني الصدف في مناسبة اجتماعية مع رجل وقور خلوق ملتزم، يود لي الخير حقاً، غير أن لديه مآخذ كثيرة على ما أكتبه، وهو لا يخفي ذلك عني، بل يقوله في وجهي، وكثيراً ما نصحني ولولا خلقه الرفيع لأنبني ولتقبلت بدوري تأنيبه بنفس راضية، فلا مشكلة عندي أبداً مع من ينتقدني سواء كان على صواب أو على خطأ، سواء كان عادلاً أو ظالماً، فوجهي أصبح (مغسولاً بمرق).

انتحى بي جانباً من المكان ليقدم لي جرعة من النصائح، شكرته طبعاً عليها ووعدته على أمل أن أحاول تطبيق بعضها بقدر ما أستطيع، لأنني أعرف نفسي (التعبانة) التي لا تطيق القيود ولا الحدود ولا السدود ولا حتى (القدود والخدود) ـ وعملية (السجع) هذه هي التي أجبرتني على إضافة الكلمتين الأخيرتين ـ، مع أنني في الواقع ـ واعذروني على صراحتي ـ أقول: إنني عندما أوردتهما لم يصدر الكلام من أعماق قلبي، وكنت أقرب ما أكون إلى الكذب الأبيض.

وافقته تقريباً على كل ما قاله وبدون تردد أو تفكير، وبعد كل نصيحة أقول له: جزاك الله خيرا، وقبل كل نصيحة أقول له أيضاً جزاك الله خيرا، ولقد جاملته كثيراً إلى درجة أنني اعتقدت أن ملامح وجهي كلها قد تغيرت وأصبحت تتسم بالورع اللطيف، مع أنها في الواقع ومع الأسف أبعد من أن تكون كذلك.

ويبدو لي أنه اعتقد أن النصائح بدأت تؤتي أُكُلها معي، لأنه شاهد التغيير الذي طرأ على ملامحي، فتوسم بي خيراً، وكأني به أراد أن يكافئني على حسن استماعي وأراد أن يرفه عني قليلاً، طرح علي فكرة قائلاً: ما رأيك أن نتساجل بالشعر، أريد أن اعرف تمكنك منه.

قلت له: Ok، إنني على أتم الاستعداد، وشمرت عن أكمامي، ونفضت من ذاكرتي كل ما علق فيها من سقط الكلام، واستنهضتها بما بقي فيها من أبيات شعر متناثرة. والمساجلة لمن لا يعرفها، هي نوع من التحدي، أو (مباراة) في الحفظ، أحدهما يبدأ ببيت من الشعر المقفى وإذا انتهى الشطر الأخير. بحرف معين، ليكن (م)، فعلى الطرف الآخر أن يرد عليه ببيت شعر يبدأ بحرف (الميم)، وهكذا.

بدأ هو ببيت شعر لحسان بن ثابت، ورددت عليه ببيت شعر لطرفة بن العبد، واتبعه ببيت لزهير بن أبي سلمى، ورددت عليه ببيت لأمرئ القيس، وأتى ببيت لكعب بن زهير، ورددت عليه ببيت لعمر بن أبي ربيعة.

ولكنه توقف وقال: لا تأت بشعر لهذا الماجن، قلت له: إذن اسمح لي أن استبدله ببيت لقيس بن الملوّح، قال ولا حتى هذا.. فاستسلمت وما هي إلا فترة قصيرة حتى أفحمني وحاصرني بحفظه وحصيلته من الشعر الذي لا ينضب.. وعندما توقفت يائساً عند بيت من الشعر أورده وكان ينتهي بحرف (التاء)، وبعد أن أخذت أتعصّر وأتلوّى فترة وهو يتطلع بوجهي ويبتسم ابتسامة الانتصار، فما كان مني إلاّ أن قلت له: تحت الشجر يا وهيبة ياما أكلنا برتقان.

كادت أن تنطلي عليه (ويدبك) في أشعاره، ولكنه توقف وهو يسألني: من هذه الوهيبة؟!، وأردف قائلاً على حد علمي أن العرب قديماً لم يعرفوا البرتقال، إنهم يعرفون فقط (الأترج)، فسألته هل الأترج هو (الكريب فروت)؟ شالني وحطني بنظراته باشمئزاز ولم يجبني. قلت له: آسف هذه أغنية لمحمد رشدي، ولكن اعذرني لقد (غلب حماري).

سامحني وهو يقوم من مكانه، ثم ربت على كتفي قائلاً: ما فيه فايدة، الغصن الأعوج يظل اعوج مهما حاولت تعديله، قلت له شكراً انك ضربت المثل بالغصن ولم تضربه بشيء آخر على بالي، ولا أريد أن أقوله.

[email protected]