خطيئة تزوير الحياة العلمية.. أو (المتبرجون بفكر غيرهم)

TT

ما سر الدين؟.. ما قلب التدين وروحه؟.. الجواب كلمة واحدة هي (الاخلاص لله)، ولأن الأمر كذلك فقد عمد منهج الاسلام الى غرس هذا الاخلاص في القلب، كما عمد الى حمايته مما يتلفه او يبطله من المتلفات والمبطلات وفي مقدمتها (الرياء) وهو: ان يكون هم المتدين: ان (يراه الناس) وان يقولوا عنه: مجاهد.. ومنفق.. وعالم.. و.. و.. وليس ينبغي الخلط بين هذه النية المبيتة على (عبادة المظاهر) وبين الثناء الذي يحبه كل انسان والذي اقره الشرع.. فالثناء يأتي ضمنا، ودون حرص وسعي وتلهف وتهافت.. اما مراءاة الناس فمرض يحمل صاحبه على ان يكون (حب الظهور) اول همه وتفكيره وارادته والصيام من الاشفية التي شرعها الاسلام لشفاء المتدينين من هذا المرض الوبيل، اذ ان الصوم (سر) بين الصائم وربه، سر يعمر القلب والنية والروح بالاخلاص لله وحده.. ولقد كان هذا الموضوع هو محور مقال الاسبوع الماضي.. ولما كان موضوع الاخلاص (نية صالحة دائمة) لا تنحصر في رمضان وحده، بل تمتد الى ما قبله وما بعده من ساعات وايام وسنين تستغرق عمر المسلم كله، فإن موضوع هذا المقال قد خصص لقضية الاخلاص في مجال جد عظيم ودقيق وحيوي وهو مجال (العلم والمعرفة والفكر). لماذا؟.. لأن فقدان الاخلاص في هذا المجال ذريعة كبرى الى (تزوير الحياة العلمية وتكاثر المتبرجين بفكر غيرهم).. وكنا قد عزمنا على ذلك عندما ختمنا مقال الاسبوع الماضي بهذه الفقرة: ونقفّي على ما تقدم: بالاخلاص في (البحث العلمي) فلهذا البحث مقومات منها: المنهج، والآليات والأدوات والبيئة العلمية المواتية.. الخ ومنها ـ بيقين ـ (الاخلاص). بمعنى الاخلاص للحقيقة من البدء الى المنتهى، والتجرد من الهوى، تتدخل (شهرة الأنا وشهوتها) في البحث: بحال من الأحوال: أيا كان مجال البحث.. يقول القرطبي في مقدمة تفسيره ـ:«وشرطي في هذا الكتاب: إضافة الأقوال إلى قائليها. فإنه يقال: من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله».. ذلك أن (السطو) على إبداعات الآخرين، ونسبتها إلى الذات السَّاطِية: «سلوك مشحون بشهوات الرياء والشهرة».

ونضيف اليوم: إنه سلوك (يزوّر الحياة العلمية والفكرية) تزويرا منكرا، وهو سلوك يقترف ـ في الوقت نفسه ـ خطيئات جرائم علمية وفكرية، أنكرها الدين ودمدم عليها.

ما البرهان على ادانة منهج الإسلام لهذه الخطيئات الغليظة؟.. إنما هي براهين كثيرة لا برهان واحد.. ومن هذه البراهين:

1 ـ ان اول من تسعّر بهم النار (عالم) يرائي بعلمه.. ونص الحديث ـ في صحيح مسلم ـ: «ورجل تعلّم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟. قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت القرآن فيك. قال كذبت ولكنك تعلمتَ العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار».. ان باعث هذا البائس وقصده: ان يقال عنه عالم (أو مثقف أو مفكر) أو.. أو.. ومما لا ريب فيه: ان هذا الباعث غير النظيف هو الذي يؤز أقواما على مراءاة الناس بنتاج الآخرين: العلمي والفكري: يسرقونه في غير ضمير، وينسبونه إلى أنفسهم بلا حياء. بل بجرأة ومباهاة!!

2 ـ «وإذا قلتم فاعدلوا».. وليس من العدالة في القول (العلمي والفكري): السطو على نتاج الآخرين ونسبته إلى السارق أو الخاطف، فإن في هذا السلوك ظلما بواحا، لا ذرة من عدل فيه.

3 – «ولا ينهب نُهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن».. وهذه العبارة تمام لحديث نبوي عن (الكبائر). والحديث رواه البخاري وغيره، ونصه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينهب نُهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن».. ونلحظ ـ هنا ـ: أن كلمة (نهبة) قد جاورت كلمة (يسرق) إذ أعقبتها في السياق.. ومن المفيد تلخيص ما ورد ـ في فتح الباري ـ عن مفاهيم (النهبة).. فنقرأ في الفتح ـ مثلاً ـ: «وأشار إلى حالة المنهوبين فإنهم ينظرون إلى من ينهبهم ولا يقدرون على دفعه «!!»، ويحتمل أن يكون كناية عن عدم التستر بذلك فيكون صفة لازمة للنهب «!!»، بخلاف السرقة والاختلاس فإنه يكون خفية، والانتهاب أشد لما فيه من مزيد الجرأة وعدم المبالاة»!!.

النهب العلمي والفكري ـ من ثم ـ كبيرة تضاهي كبائر: الزنا.. وشرب الخمر. والسرقة.. وهذا المحذور يكفي ـ وحده ـ لدفع النّهابين العلميين والفكريين للعزم على التوبة من النهب، ولا سيما في موسم التوبة العظيم، وهو شهر رمضان.

4 ـ «ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا». وفي الآية معنى ظاهر بديه وهو: ألا يهجم المرء على شيء لا يعلمه فيقول فيه بغير علم، وألا يقول قولا لا ينسبه الى مصدر علمي موثوق، فان التخرص والظن ليسا من العلم في شيء، ولا يحل لمسلم ان يقفوهما لانهما مؤديان ـ ولا بد ـ الى الضلال: «وإن تطع اكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله ان يتبعون الا الظن وان هم الا يخرصون».. وثمة معنى آخر: عميق وانساني وهو: الحرص (احترام الانسان) بمعنى الدفع الى ان يحترم الانسان نفسه في الحقل المعرفي: العلمي والفكري والثقافي، ذلك ان الانسان حين يهجم على ما لا يعلم، أو يتبرج ـ فكريا ـ بما هو اطول من قامته، واكبر من عقله المعتاد، وأسمى من طريقة تفكيره المألوفة.. حين يفعل ذلك انما يعرض نفسه للسخرية والاستهزاء والغمز واللمز والحط من القيمة والقدر.. وليس من احترامه لذاته: ان يتورط في ذلك. ومن هنا، فان «ولا تقف ما ليس لك به علم» يتضمن معنى حماية الذات ـ على يد الذات ـ من الامتهان والانتقاص وهدر القيمة المعنوية.

5 ـ في حديث متفق عليه، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» والقطفة الاولى الدانية من المعنى: ان المتظاهر بغير حقيقته.. المتبرج بما حرم منه ـ أيا كان مجال التبرج ـ انما هو مزور كبيرـ يلبس ثوبي زور لا ثوبا واحدا فحسب: كناية عن الانغماس في التزوير والغرق فيه.. ولنلخص ـ ايضا ـ ما جاء في فتح الباري في شرح هذا الحديث: «قوله (المتشبع)، أي المتزين بما ليس عنده: يتكثر بذلك ويتزين بالباطل.. وقال ابو سعيد الضرير: المراد به ان شاهد الزور قد يستعير ثوبين يتجمل بهما ليوهم انه مقبول الشهادة.. واما حكم التثنية في قوله (ثوبي زور) فللاشارة الى ان كذب المتحلّي مثنى، لانه كذب على نفسه بما لم يأخذ، وكذب على غيره بما لم يعط.. وشبه بلابس ثوبي زور، أي ذي زور، وهو الذي يتزيا بأهل الصلاح رياء».. ويقاس عليه كل مُراء يتزيا ـ رياء وشهرة ـ بمواهب ومعارف وابداعات غيره وهو منها محروم وعنها بعيد جدا.. ولذا فان حديث (المتشبع) هذا ينطبق ـ في مفهوم من مفاهيمه ـ على سراق العلم والفكر الذين يتظاهرون بالتشبع بما لم يعطوه من العلم والفكر.

وعلى الرغم من وضوح هذه الكبيرة، وسفور هذه الخطيئة المغلظة، قد يجادل اقوام بالباطل في ذلك ويقولون: ان تراثنا مملوء بمثل هذه الظواهر، أي ظواهر السرقة او الخطف العلمي، او التزوير الثقافي.. فما الغرابة في ذلك؟!!.

والرد:

أولا: لا قيمة للاحتجاج بالتراث اذا تبين البرهان من المصدرين المعصومين من الهوى والخطأ، العاصمين من الضلال وهما: الكتاب والسنة.. ولقد التقينا آنفا بفيض من براهين الكتاب والسنة التي تنهى وتمنع من جرائم السرقات العلمية.

ثانيا: نعم في تراثنا ما يمكن تسميته بـ (الفوضى العلمية والفكرية) بيد انها فوضى يجب ان تنتقد بصراحة، وتنقض بحزم، لا أن تقلد أو يحتج بها. فالاقتداء إنما يكون في الحق، لا في الباطل.

ثالثا: ان هناك من السابقين من انتقد تلك الفوضى، وأنب الخائضين فيها.. مثال ذلك: أن ابن حجر العسقلاني انتقد ـ بشدة ـ تلميذه البوصيري لما أخذ الأخير نصوصا من ابن حجر ونسبها الى نفسه، ولم يعزها الى صاحبها مع انه شيخه «!!!».. قال ابن حجر ـ وهو يراجع كتاب البوصيري: اتحاف المهرة الخيرة بزوائد المسانيد العشرة ـ. قال ابن حجر: «يا أخي هذا كلامي بنصه في تهذيب التهذيب، تأخذه مني فترده عليّ، أما علمت ان الجرح مقدم على التعديل لا سيما ان بُيِّن السبب، وأي سبب أبين من المخالفة؟. أما تعلم ان الحيثية مرعية وان المراد باطلاق الضعف عليه هنا ما أتي به من الشذوذ. فإنا لله وإنا اليه راجعون»، كما انتقد ابن حجر: ابن منجويه صاحب كتاب (رجال صحيح مسلم) وقال: «إن دَأَبَ ابن منجويه ان ينقل كلام ابن حبان برمته ولا يعزوه إليه».. ومن أراد التوسع في هذا المبحث فليراجع الدراسة العلمية الموثقة التي أنتجها الدكتور أكرم العمري بعنوان (تطور الحركة النقدية وأثرها في التقدم الفكري).

ثم من اللجاج بالباطل: الاحتجاج بنموذجين معينين يكثر الاحتجاح بهما: كأسانيد لمشروعية التزوير العلمي!.

1 ـ النموذج الأول هو: ان عنوانا واحدا وموضوعا واحدا يحملان اسم مؤلفين اثنين هما: (الماوردي، وابي يعلى)، فلكلا الرجلين كتاب اسمه (الاحكام السلطانية). والتطابق أو التشابه لا ينحصر في العنوان. بل هناك تطابق في الموضوعات الفرعية والأحكام والمفردات التفصيلية مما يتعذر معه القول بالمصادفة وتوارد الخواطر.. وبتعذر ذلك يتضح علميا أن أحدهما أخذ من الآخر.. وهذا خطأ علمي كبير: لا يحتج به قط.

2 ـ النموذج الثاني: أَخذُ ابن القيم عن شيخه ابن تيمية كثيرا.. وهذا نموذج لا يصح الاحتجاج به على مشروعية السرقة والتزوير العلمي:

أ ـ فمن المعروف على نطاق واسع ان ابن القيم تلميذ لابن تيمية ومنتسب الى مدرسته، ومن ثم يعرف الحذاق من اين أخذ.

ب ـ ان ابن القيم بلغ من الأمانة العلمية درجة سامية جدا، فهو يعزو كل قول أخذ من شيخه: الى شيخه نفسه، سواء كان هذا القول صفحة كاملة أو أكثر، أو كان سطرا أو جملة، وفي كثير من الأحيان تكاد شخصية ابن القيم تذوب في شخصية شيخه: من فرط الاعجاب به والعزو والاستشهاد.. وهذا كله ينفي ـ بحسم تام ـ شبهة الأخذ بلا عزو، ويسقط تعلة الاحتجاج والتسويغ للتزوير العلمي والفكري.

وجماع الكلم: ان التزوير العلمي باعثه الرياء والشهرة، وهما من نواقص التدين النقي.

في مثل هذا اليوم قبل أكثر من 1400 سنة جرت المعركة الكبرى ـ في بدر ـ بين المبشرين بالحق والنور وبين حراس الباطل والظلام. فهل هذه قفزة بعيدة عن موضوعنا هذا؟ لا.. فالموضوع الذي معنا هو: ان الاخلاص هو جوهر الدين والتدين.. وهذه المعركة كانت في ـ حقيقتها ـ بين الاخلاص العميق لله في جانب المسلمين «ولكن الله سلم انه عليم بذات الصدور» وبين الرياء الصاخب للناس في جانب المشركين: «ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس». فكان النصر للإخلاص، والهزيمة للرياء.. وهذه سنة ماضية تنتظم النصر والنجاح في ميادين العلم والسياسة والعمل الخيري والانساني والعمل العسكري المشروع للدفاع عن النفس. فإذا فقد الاخلاص كانت الهزائم في هذه الميادين جميعاً.