لست مذنبا ياسيدي القاضي.. ولست بريئا

TT

* سيدي القاضي..

* إنني أشكر لكم سعة صدركم وسماحكم لي بالترافع في قضيتي بعد صدور الحكم فيها، وأنا أعترف مقدما بأن ما سأقوله لا دخل للقانون فيه ولا شأن له به، وليس له صلة من بعيد أو قريب بالحكم بالسجن الذي أصدرتموه علي، فليس من حقي طبقا للقانون أن أعلق على أحكام القضاء، أنا فقط أريد أن أشرح لعدالتكم وللرأي العام إذا كان له وجود، أن الثقافة العامة التي تربيت عليها هي ثقافة الشتيمة، أن أشتم الآخرين، هذه هي ثقافتي وخصوصيتي، وعندما شاءت الأقدار أن أعمل في الصحافة، ترسخت هذه الثقافة في وجداني واكتسبت شرعيتها وحجيتها، الشتيمة هي مهنتي يا سيدي القاضي، وعندما تصدر علي حكما بالسجن لأنني شتمت بعض الناس من ذوي المكانة الرفيعة، فمعنى ذلك أنك تضعني في السجن لأنني مارست مهنتي، تماما كما لو أنك أدنت ملاكما كسر فك ملاكم آخر على حلبة الملاكمة..

إهانة الآخرين المختلفين معنا في الرأي، اغتيال شخصياتهم بواسطة الأخبار الكاذبة والملفقة، تشويه صورتهم وسمعتهم، جزء ضروري من عمل، بل ربما كان الجزء الأساسي فيه، منذ طفولتي وكما يحدث عادة في كل الدول الثورية، تعلمت أن الدنيا تتكون من أصدقاء وأعداء، وأن واجبي ومهمتي في هذه الحياة هي أن أقوم بتمزيق أعدائي وليس الانتصار عليهم، هذا هو بالضبط ما لخصته أغنية حماسية شهيرة.. وأبي قال لنا.. مزقوا أعداءنا..

كان المطلوب منا تمزيق الأعداء وليس الانتصار عليهم أو حل نزاعاتنا معهم. يبدو أن الشخصية المصرية تعتقد أن الشتيمة من علامات النضج والرجولة، لقد شاهدت ذات مرة فنانا مثقفا بل ويعمل بالسياسة أيضا، يدلل طفله الصغير الذي بدأ يتعلم نطق الكلمات ويطلب منه أن يشتم واحدا من أصدقائه: اشتم عمك ياواد.. قل له يابن الكلب ياعمو..

ثم بدأ يختار له كلمات مروعة من قاموس الشتيمة والطفل يرددها خلفه شاتما بها كل الضيوف الذين كانوا يضحكون باستمتاع وإعجاب بهذا الدرس الأبوي التأسيسي.. كما ترى يا سعادة القاضي الشتيمة تعني النضج عند قطاع عريض من المثقفين.. أذكر.. وأنا أخطو خطواتي الأولى في اتجاه النضج أنني سمعت خطبة شهيرة لزعيمي يشتم فيها الرؤساء العرب بكلمات لو كنت استخدمتها أنا في مقالاتي لحكمتم علي سيادتكم بالإعدام، كانت هذه الشتائم قرارات جمهورية واجبة التنفيذ فضلا عن أنها كانت تشعرنا بقدر كبير من الفرحة لذلك مارسناها على مستوانا المتواضع.

لم نكن نشكو من قلة الأعداء، قائمة الأعداء كانت طويلة ومتجددة، تستطيع كل صباح ومساء أن تختار منهم واحدا أو جماعة لتشتمهم ثم تذهب لتنام هادئ البال، شتيمة أعداء الوطن هي العلاج الوحيد الناجح للتوتر والقلق والأرق.. كان هناك رجال العهد البائد والملك ورجاله ونساؤه، وأصحاب الأحزاب الخونة، ثم الإقطاع، ثم الاستعمار ثم أذناب الاستعمار، ثم أصحاب راس المال المستبد ثم الرجعية المصرية المتعاونة بالضرورة مع الرجعية العربية، وكانت هناك ـ وما زالت ـ أمريكا.. كان من حقنا أن نشتم هؤلاء شتائم مقذعة، وعندما نشعر بالملل أو السأم كنا نلجأ لشتيمة العدو الإسرائيلي..

كنا نفعل ذلك بالطبع دفاعا عن الوطن، كما أنه كان يمدنا بشعور طيب بالتحقق والإنجاز، لم يحدث أن أحدا قال لنا ان ما نمارسه خطأ، أو أنه لا يمت لمهنة الصحافة بصلة، كان من حقنا أن نلفق خبرا كاذبا ضد أي مخلوق، بل كان شرف لنا أن نفعل ذلك، سأعطيك مثالا يا سيدي القاضي من أيامنا هذه، أحد كبار الكتاب كتب في صحيفة مصرية عن كوندوليزا رايس يقول إنها عجوز شمطاء ذات تقاطيع قبيحة، ولم يحدث له شيء، ولم يغضب منه أحد، ولم يحله أحد إلى النيابة أو القضاء، وذلك لسبب بسيط أن اسم وزير خارجية أمريكا ـ أي وزير ـ موجود في كشوف أعداء الوطن الذين لا بد من تمزيقهم، وحتى هذه اللحظة التي أكلمك فيها الآن، هناك أعداء للوطن من حق الصحافة أن تنشر عنهم حواديت كاذبة تحتوى على كمية كبيرة من التأليف والاختراعات والتلفيقات والبلاهات أيضا بغير أن يتصدى لها أحد أو يلفت نظرها أحد، من هو ذلك الشخص المتهور في مصر الذي يلفت نظر أحد أبطال المقاومة المصرية، إلى أن شتيمته للناس أمر ضار بالصحافة وبالمصريين؟.. إنني أستطيع الآن أن أنشر خبرا طويلا عن أن السفير الأميركي أو الإسرائيلي حضر هذه الجلسة وتمتم بكلمات غير لائقة تمس العدالة المصرية فصرخت فيه سيادتك من فوق المنصة: اخرس قطع لسانك..

ثم قفزت سيادتك من فوق المنصة وأمسكته وضربته قلمين فخرج من هنا قبل أن تفتك به الناس وتوجه إلى وزير الخارجية الذي كان يعرف ما حدث فقابله على باب الوزارة الخارجي وصاح فيه: عيب .. عيب اللي عملته ده.. اتفضل روح سفارتك وما تجيش هنا تاني إلا لما أوافق لك..

صدقني يا سعادة القاضي لن يحدث لي شيء، فقط سترتفع أرقام التوزيع ويشتد احترام الناس لي لشجاعتي وانفرادي بهذا الخبر، وحتى لو قمت سعادتك بتكذيبه فسنعتذر وننشر تصحيحا نقول فيه إنك لم تضربه ولكنك كنت على وشك أن تضربه قلمين.. أريد فقط أن أقول ان الشتيمة والتلفيق جزء من عملي الذي حكمتم علي بالسجن لأنني التزمت بقواعده.. لماذا إذن حدث هذا الذي حدث..؟ لماذا حوسبت أنا فجأة على إهانة الناس؟

أنا من خريجي إعلام الدولة، فيه تربيت وفيه تعلمت وفيه اكتسبت مهاراتي، ثم جاءت الحرية، أحزاب ومعارضة وصحافة مستقلة، كان لا بد من الاستعانة بي وعدد من زملائي نظرا لأننا اكتسبنا مهارات عملية لا بد منها لكي ترى هذه الصحف النور، هكذا انتقلت من إعلام الدولة المدعوم إلى الإعلام الحر غير المدعوم، غير أن الشتيمة مثل العشق من المستحيل التخلص منها، كانت الحكومة من قبل تمدنا بقوائم الأعداء.. أما الآن فلا بد من الاعتماد على أنفسنا وهو ما يحتم البحث عن أعداء جدد نحقق بشتيمتهم ما نطلبه من إثارة تضمن لنا زيادة التوزيع، من اجل ذلك كان لا بد من رفع سقف الشتيمة لتطال شخصيات رفيعة لم يحدث أن اقترب منها أحد من قبل، راس المال الخاص هو الذي أنشا هذه الصحف والفشل في تغطيته على الأقل يعني الإفلاس، لذلك كان التوزيع ـ أقصد الشتيمة ـ مسألة حياة أو موت، كان لا بد من البحث عن مجالات أخرى للشتيمة ننجح بها وأيضا نتحقق بها كزعماء ثوريين..

أمر أخير يا سيدي القاضي.. ربما أكون مخطئا غير أنني ناجح.. نعم أنا ناجح.. ومن ينكر ذلك يخدع نفسه.. أنا معايا فلوس دلوقت .. والله ما كان ممكن أعملها لو اشتغلت رئيس تحرير النيوزويك.. كان ممكن أدخل السجن في مصر لأي سبب آخر وأنا مفلس.. أما الآن فسأدخله غنيا وبطلا شعبيا.. أنا آسف لأنني أطلت، غير أنه كان لا بد لي من أن أشرح أشياء لا يتحدث عنها أحد.. أشكرك يا سيدي القاضي وأرجو ألا اكون قد أضعت وقتك.