نحن وهم.. والقوى الخارجية

TT

ساحتان عربيتان ساخنتان تجسدان التباعد الذي نمارسه، ونعيشه ونتنفسه، ونلقي باللائمة على الآخرين الذين يسببون هذا التباعد، ونعلق على مشجب المؤامرات هذه الفرقة وهذا التمزق.

شيئا فشيئا، ترى خطاب القوى العراقية السياسية المتنوعة يتباعد، وشيئا فشيئا ترى متحدثك بالأمس ينحاز ـ ربما بدون أن يشعر ـ لطائفته أو لقوميته.

تتساءل إن كان هذا الذي أمامك اليوم هو نفسه الذي كان ضحية للتباعد والتمييز والقهر والقمع على أساس طائفته أو قوميته! وتستغرب كيف أن ضحية الأمس القريب ـ ربما بدون أن ينتبه ـ قد أصبح في موقع من مارس الإرهاب والتمييز ضده قبل فترة قصيرة، لكنه يسير على نفس النهج السابق وإن بأشكال ولغة جديدة.

تتحدث مع العراقي الشيعي فيبدأ بالشرح لك كيف أنهم «شيعة مظلومون» منذ عهد الإمام علي، وكيف أن الظلم لا يزال مستمرا ضدهم من قبل الإرهابيين والتكفيريين والصداميين، ويعدد بالأرقام الجرائم التي ترتكب ويكون ضحاياها من الشيعة تحديدا، لا ينكر محدثك أن هناك ضحايا من أهل السنة لكن أهل الشيعة أكثر بكثير.

تنتابك فكرة حزينة: هل تلحظ أنه يستخدم كلمة «إحنا»؟ إنه يعزز فرز نفسه ويؤكد تعريفه على أساس غير عراقي مكرسا الطائفية التي يدعي الجميع بأنه في حرب شعواء معها!

والسني العراقي يسهب في شرح كيف أن أهل السنة ضحايا «المؤامرات والدسائس» التي بدأها المجوس وأعوانهم باغتيال علي بن أبي طالب أيضا الذي يعتبره فريق «السنة» أحدهم، وكيف أنهم ضحايا استمرار تلك المؤامرات حتى يومنا هذا. لا بل كيف أن الضحايا في العراق اليوم، هم أهل السنة، ويقدم لك أرقاما تخالف ما قدمه «الشيعي» قبله في محاولة لإثبات أن ضحايا أهل السنة أكثر بكثير من ضحايا الشيعة.

كلا الفريقين لا ينسى طبعا أن يذكر بأن القوى الخارجية هي التي فرقتنا، وهي التي تحيك الدسائس لتفريق السنة والشيعة مرددا بشكل لم يعد يقنع أحدا: «ماكو فرق، كلنا شيعة وسنة إخوان وأهل وقرايب ونسايب، بس كله من الاحتلال والجيران، إحنا بيناتنا كل فرق ماكو».

الكل أصبح ضحية الآخر، والكل يريد أن يقنع العالم أن لا ذنب لهم فيما يجري لهم على أيدي بعضهم في الغالب، والمالكي يردد ليل نهار من المنطقة الخضراء حتى مانهاتن كلاما عن سير «العملية السياسية»..!

والساسة في لبنان، «هلكوا الدنيا» وهم يعلقون على الآخر كل مشاكلهم: الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب، والاحتلال السوري في كل مكان!

خرج الاحتلالان، وبقي التمزق. لا ينكر منصف بقاء الأيدي الخفية للمخابرات الإسرائيلية والسورية والأمريكية والإيرانية وربما مخابرات الكاكاو في لبنان، لكن المراقب العادي، و«المعتر» اللبناني لا يفهم ولا يريد أن يفهم الدور الخارجي لما يجري من فرقة وتمزق في لبنان، لأن الأيدي التي تنفذ «مخططات التمزق» هي لبنانية صرفة، لا بل إنها معلنة وبائنة للعيان جهارا ونهارا على شاشات التلفزيون وعلى الصفحات الأولى للجرائد. طبعا فريق الموالاة يتهم عملاء سوريا ولبنان بقتل معارضيهم، وباغتيال فريقهم نائبا نائبا حتى سقوط «النصاب»، بينما يلوم فريق المعارضة «الخونة والصهاينة» على ما حل بلبنان... وتعال حلها!

وتماما مثلما ينفذ الساسة اللبنانيون بمحض إرادتهم تمزيق بلدهم مع سبق الاصرار والترصد، نجد في العراق أن «المؤامرات الصفوية والمجوسية والإمبريالية والناصبية (نسبة إلى النواصب) والرافضية (نسبة إلى الروافض) تنفذها إياد عراقية أصيلة معلنة وممثلة بساسة معروفين وبميليشيات مسلحين.

ساحتان مشتعلتان بيننا يلوم فرقاؤها بعضهم بعضا، ويتهمه بالعمالة للآخر... ما الجديد في فكرنا السياسي؟ مزيد من الدماء والفرقة والتباعد.