الأمن الفكري: البعد الاستراتيجي للأمن الوطني

TT

لا شك ان مفهوم الأمن يحظى بأهمية بالغة، وقد شاع استخدامه حديثا في علم السياسة، إلا انه كما يشير البعض يتسم بالغموض اذا ما ربط بمصطلح الأمن الوطني المصطلح الاكثر تعقيدا وتشعبا. ان ظهور مصطلح الأمن ظهر جليا في اعقاب الحرب العالمية الثانية، فقد برزت كثير من المدارس الفكرية التي تبحث في ماهية الأمن الوطني وتحقيقه، وكان التركيز والبحث يدوران حول كيفية صيانة الأمن وتجنب الحروب.

وللتعرف اكثر على مفهوم الأمن بشكل عام من خلال الموسوعات الفكرية المتخصصة نشير الى ما ورد في الموسوعة البريطانية للمعارف حيث عرفت هذا المفهوم بأنه «حماية الامة من خطر القهر على يد قوة اجنبية». ومن وجهة نظر وزير الخارجية الاميركي الاسبق هنري كيسنجر فان الأمن يعني «اي تصرفات يسعى المجتمع عن طريقها الى حفظ حقه في البقاء». ومن ابرز الكتابات في مجال الأمن ما ورد عن وزير الدفاع الاميركي السابق روبرت مكنمارا بقوله «ان الأمن يعني التطور والتنمية، سواء منها الاقتصادية او الاجتماعية او السياسية في ظل حماية مضمونة»، وأضاف «ان الأمن الحقيقي للدولة ينبع من معرفتها العميقة للمصادر التي تهدد مختلف قدراتها ومواجهتها، لإعطاء الفرصة لتنمية تلك القدرات تنمية حقيقية في كافة المجالات سواء في الحاضر او المستقبل».

ولعل أكبر دلالة على مفهوم الأمن ما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى: «فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف». ونتيجة لذلك فإن الأمن هو مواجهة الخوف، والمقصود به هنا ما يهدد المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وفكريا.. وبشكل عام فإن مفهوم الأمن هو الوصول الى اعلى درجات الاطمئنان والشعور بالسلام.

في دراسة نشرتها جامعة الامير نايف العربية للعلوم الأمنية اشار الدكتور عبد الرحمن معلا الى ان «الأمن همُّ وهاجسُ البشر، لأنهم ينشدون الحياة الآمنة التي لا يهددها شيء».

ولما كان الأمن الوطني في مفهومه الشامل يعني تأمين الدولة والحفاظ على مصادر قوتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، وايجاد الاستراتيجيات والخطط الشاملة التي تكفل تحقيق ذلك، يبرز هنا البعد الفكري والمعنوي للأمن الوطني الذي يهدف الى حفظ الفكر السليم والمعتقدات والقيم والتقاليد الكريمة. هذا البعد من وجهة نظرنا يمثل بعدا استراتيجيا للأمن الوطني لأنه مرتبط بهوية الامة واستقرار قيمها التي تدعو الى أمن الافراد وأمن الوطن والترابط والتواصل الاجتماعي، ومواجهة كل ما يهدد تلك الهوية وتبني افكار هدامة تنعكس سلبا على جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لان الهوية تمثل ثوابت الأمة من قيم ومعتقدات وعادات، وهذا ما يحرص الأعداء على مهاجمته لتحقيق اهدافهم العدوانية والترويج لأفكارهم الهدامة وخاصة بين شريحة الشباب، والتشويش على افكارهم ودعوتهم للتطرف، كما يشير الى ذلك الدكتور صالح المالك في دراسة حول دور الأمن الفكري في الحماية من الغزو الفكري.

ان الأمن الفكري يتعدى ذلك ليكون من الضروريات الأمنية لحماية المكتسبات والوقوف بحزم ضد كل ما يؤدي الى الاخلال بالأمن والذي سينعكس حتما على الجوانب الأمنية الاخرى خاصة الجنائية والاقتصادية.

ان الوقوف بقوة في وجه مصادر الغزو الفكري المنحرف والمتطرف يمثل ركيزة اساسية لتحقيق الأمن الفكري.. فقد اشارت إحدى الدراسات الى قول الملك الفرنسي لويس التاسع، عندما أطلق سراحه مقابل الفدية في مصر، «تكسرت الرماح والسيوف، فلنبدأ حرب الكلمة». لا شك ان لا شكل، او وجهة محددة، للافكار المتطرفة والهدامة ويمكن ان يحملها افراد او جماعات تروج للاكاذيب والادعاءات الباطلة للنيل من ثوابت الوطن، وزعزعة الأمن والاستقرار، والإضرار بالاقتصاد والمؤسسات الاجتماعية.

ان الأمن الفكري مسألة معقدة وشائكة في مقابل الابعاد الأمنية الاخرى حيث تتمتع بالوضوح، فـ«الفكر المتطرف لا يكون واضحا لكل احد، وفي كل وقت، إذ لا يملك ذلك إلا المؤهلون القادرون على ذلك» كما اشار الدكتور عبد الرحمن معلا. ولذلك فان الحاجة للأمن الفكري تزداد وتستوجب الاهتمام.

ان ما اشار اليه الدكتور صالح المالك عن أن «الأمن الفكري يعني الحفاظ على المكونات الثقافية والاصلية في مواجهة التيارات الثقافية الوافدة او الاجنبية المشبوهة» يصب في صالح الدعوة لتقوية هذا البعد من ابعاد الأمن الوطني. وهو بهذا يعني حماية وصيانة الهوية الثقافية من الاختراق او الاحتواء من الخارج، ويعني ايضا ان الأمن الفكري هو الحفاظ على العقل من الاحتواء الخارجي وصيانة المؤسسات الثقافية في الداخل من الانحراف، والأمن الفكري مسألة يجب ان تحظى باهتمام المجتمع مثلما تهم الدولة.

الأمن الفكري هو إحساس المجتمع بأن منظومته الفكرية ونظامه الاخلاقي الذي يرتب العلاقات بين افراده داخل المجتمع ليسا في موضع تهديد من فكر متطرف وافد.

ان مصادر تهديد الأمن الفكري متعددة وتأتي احيانا كثيرة من جماعات التطرف والتشدد الفكري، ومثيري الفتن ودعاة الفرقة. ولما كانت الرقابة الأمنية او الضوابط والقيود على ما تقوم بعرضه وبثه تلك الجماعات من خلال البث الاعلامي والانترنت وغيرهما من الوسائل من الصعوبة بمكان نظرا لما يسمى بالعولمة وعصر تدفق المعلومات بكثافة، فقد اصبح اللجوء الى استراتيجية اجتماعية متكاملة امرا ملحا للمساهمة في الحفاظ على عقول الشباب وغيرهم من الغزو الفكري وتحصينهم ثقافيا من خلال المعلومات الصحيحة التي تزيد الوعي الأمني والثقافي وذلك لإبعادهم عن الوقوع في الجريمة والخروج على الانظمة والقيم والعادات والتعاليم الدينية السليمة.

من وجهة نظرنا، وربما يؤيدنا الكثيرون في ذلك، ان الأمن الفكري ليس فقط مسؤولية السلطات المعنية بالأمن الوطني انما ايضا المؤسسات الاجتماعية بكل انواعها، سواء التعليمية او الثقافية او الدينية التي سيكون لها، من المؤكد، دور فعال وحيوي في المساهمة في تحقيق اعلى مستويات الأمن الفكري. وبشكل ادق نشير هنا الى دور الاسرة والمدرسة والجامعة والمسجد، يضاف الى ذلك وسائل الاعلام بكل انواعها والتي تنطلق من المجتمع. ويتمثل هذا الدور بالدرجة الاولى في نشر الوعي الأمني الفكري، وتنمية العلاقات بين رجال الأمن والمواطنين، ورفع معنويات رجال الأمن مما يعمق الشعور بالانتماء لهذا الوطن، وتبصير الجميع بالنتائج الوخيمة للجريمة وخطرها على المجتمع.

ان العملية التعليمية والتوجيه الاسري، بالإضافة الى دور المسجد، كل هذه العناصر تسير في خط متواز لدفع الافراد الى اتجاهات فكرية سليمة ورشيدة وصحية تنتج سلوكا سويا يؤدي الى اقامة علاقات ايجابية تعينهم على مواجهة الافكار الهدامة والعيش بأمان وسلام.

ان من الخطأ الاعتقاد بأن دور المؤسسات التعليمية على سبيل المثال يتوقف فقط عند التعليم بمعناه التقليدي (القراءة والكتابة) كما يشير البعض. بل نحن مع من يقول إن دورها يزداد اهمية في كل المراحل خاصة المتوسطة والثانوية نظرا للتطور العمري الذي يمر به الطالب وتحديدا من مرحلة الطفولة الى مرحلة الشباب.

ونتوقف هنا لنشير الى بعض ما ورد في كلمة الدكتور عبد الله المعيلي مدير التربية والتعليم في منطقة الرياض بالمملكة العربية السعودية عندما قال «وما دام ان الأمن نعمة يرفل بها كل فرد ومجتمع، ويسعد بها كل موجود، فان الحفاظ عليه واجب يشترك فيه جميع الافراد والمؤسسات والهيئات في المجتمع. والمؤسسات التربوية والتعليمية من اولى الجهات المعنية بالحفاظ على الأمن ووقاية المجتمع من مفسداته من خلال بناء شخصية الناشئة».

إذن لا بد من رسم استراتيجية واضحة وقوية لتنمية ودعم الأمن الفكري لتتحقق طموحات الدولة في توفير الأمن، والمسارعة في وضع الاجراءات الوقائية، ومتابعة المتغيرات والصراعات الخارجية اقليميا وعالميا مصحوبة بالجاهزية والاستعداد لعلاج المشاكل والأزمات التي قد تهدد الأمن الوطني.

* أكاديمي كويتي