حكاية الغارة على بشار

TT

في السلم، مهمة الإعلام التغطية على السياسة. في اللاسلم واللاحرب، مهمة الإعلام «إحاطة الحقيقة بحرس من الأكاذيب»، كما كان يقول تشرشل صانع الحروب في القرن العشرين. الواقع أن غوبلز وزير إعلام هتلر كان أكبر «كذّاب» في التاريخ. لا يضاهيه سوى سعيد الصحاف «غوبلز» صدام. الانجليز أكثر حصافة وذكاء. كانت الـ بي. بي. سي خلال الحرب العالمية الثانية تمزج الحقائق بأكاذيب متقنة أكثر واقعية وقبولا لدى الرأي العام.

من عادتي في الأزمات، متابعة أسلوب التغطية الإعلامية في المواجهة بين المأزومين. في الغارة الإسرائيلية على الأسد بشار، لا شك أن إسرائيل وأميركا اللتين لا تملكان إعلاما رسميا ووزارة إعلام، حققتا تفوقا واضحا في تقديم وقائع وحقائق وأكاذيب عن سورية التي تملك وزارة إعلام وقطاعا إعلاميا رسميا!

يكاد فن ادارة الإعلام وتسخيره لخدمة السياسات أن يصبح علما يدرس في الجامعات ومراكز البحوث. زودت إسرائيل وأميركا الإعلام المحلي والعالمي بسيل متدفق ومتناقض من «المعلومات». أرضتا شهوة الإعلام الغريزية للتفاصيل. انفردتا ليس فقط بالرواية السينمائية للعملية وإنما أيضا بالتحليل السياسي والعسكري لها، أمام رأي عام عالمي خرج في النهاية مقتنعا «بوجاهة» الأسباب الإسرائيلية لشنِّها. وصل فن إدارة الإعلام الى درجة التلاعب بسورية، من خلال تحليل إسرائيلي أميركي «موضوعي» للموقف السوري، بالنيابة عن... نظام الأسد!

سورية تكلمت عن العملية باختزال. صمت سورية العجيب ليس مردّه فقط إلى العجز عن إحباط العملية الجوية، وإنما أيضا الى «قلة حيلة» إعلام رسمي شديد المحلية، بحيث لا يصل صوته حتى الى جاره لبنان الذي يحقق إعلامه غير الرسمي تفوقا واضحا في الصخب والضجيج عربيا وإعلاميا، ضد التدخل السوري هناك.

ما أحوج سورية، بل كل بلد عربي، الى فكر إعلامي جديد، الى دوائر إعلامية تعمل الى جانب دائرة صنع القرار السياسي، وتملك حرية كبيرة في الحصول على المعلومات، وتزويد الإعلام المحلي والعالمي بما فيها من «حقائق وأكاذيب»، وإدامة عملية التسريب طوال العملية الطارئة أو الأزمة الناشبة.

في الحالة السورية، تخلفُ فن إدارة الإعلام راجع الى قصور معيب على أعلى المستويات في فهم دور الإعلام والتعامل مع الصحافيين من مراسلين أجانب ومحليين وكتاب ومعلقين سياسيين، بعيدا عن الاعتقاد بأنهم مجرد أبواق أو «صوت سيِّده». يجري تبليغ هؤلاء بالموقف الرسمي من دون تفسير أو نقاش، ومن دون تزويد بالمعلومات التي تمكن صحافيا أو محللا أو وزير الخارجية أو الإعلام، من الرد على أسئلة الصحافة ووكالات الأنباء. أيضا، جماعات «اللوبي» الحزبية والطائفية والعسكرية والمخابراتية ضد السماح بنشوء «لوبي» إعلامي يعمل الى جانب الأب، ومن بعده الابن، في إدارة وإدامة المعركة الإعلامية محليا وعالميا.

لم أعمل في إعلام بلدي سورية سوى عشر سنوات من عمر صحافي تجاوز الآن الخمسين بسنوات. لكن في زيارات بعيدة لدمشق الستينات والسبعينات، كنت أُلِحُّ على مسؤولين في هذه "«اللوبيات» لوضع دمشق على خريطة الإعلام العالمي، كمصدر وصانع للأخبار والأحداث والمعلومات. لكن جهدي المتواضع ذهب عبثا.

مع «ربيع» بشار (2000) دعيت الى الكتابة في الصحافة السورية. على سبيل الاختبار والتجربة، بدأت بزاوية لا تزيد عن عشرين سطرا على عمود في الصفحة الأخيرة في صحيفة «تشرين». ثم توقفت مع انقضاء «الربيع». كان حديثي عن فنانة كفايزة أحمد ينشر، لكن تغيب عن النشر دعوتي الى تكريم صحافي كبير مغترب كأحمد عسّه، أو لتحرير الأخبار من احتكار وكالة «سانا» الرسمية لها. أعود إلى غرضي الأصلي من هذا الحديث، وهو تقديم تفسيرات جديدة مختلفة للعملية الجوية. أقول إني ما زلت عند رأيي في أن الطيران الإسرائيلي كان يختبر ويبحث عن قنوات جوية للوصول إلى إيران عبر سورية والعراق. وأضيف أني أشك في الرواية السورية عن التسلل البحري لزوار الفجر الإسرائيليين، لأن القاذفات الإسرائيلية الثماني كان عليها أن تقطع مسافة ألفي كيلومتر جيئة وذهابا من إسرائيل إلى دير الزور.

من هنا، فاحتمال الانطلاق الجوي الإسرائيلي من تركيا إلى الأراضي السورية أقرب إلى الواقع والتصديق (300 كيلومتر ذهابا وإيابا). أوفد بشار قاذفته الديبلوماسية الثقيلة (وليد المعلم) للاستفسار العاتب على الأتراك. الجيران الذين يتمتعون بعلاقات جيدة مع سورية وإسرائيل نفوا العلم والخبر بمرور الطيران الإسرائيلي في مجالهم الجوي على الحدود مع سورية (800 كيلومتر). الصمت التركي، عن جهل أو علم، يضع أميركا في «خانة» الاتهام بالسماح لإسرائيل باستخدام قاعدة «انكرلك» في تركيا أو القواعد الأميركية في العراق تحت تصرف الطيران الإسرائيلي.

ثم ما لبثت إسرائيل أن تحدثت عن عملية «كوماندوس» سابقة لسرقة ونقل «أجهزة نووية كورية» من قاعدة سورية في منطقة الهدف في شمال سورية. إذا كانت المعلومات الإسرائيلية غير محاطة بحرس من الأكاذيب، فهذا يعني تعزيز الاعتقاد بأن الانطلاق تم من تركيا أو العراق. السبب أن عملية تسلل برية خلف الخطوط كهذه، تحتاج أصلا إلى طائرات هليكوبتر. وحسب علمي، فإن الهليكوبتر عاجزة تقنيا وعسكريا عن الطيران مسافة ألفي كيلومتر جيئة وذهابا، من إسرائيل إلى شمال سورية وبالعكس.

على المستوى السياسي، يستطيع الرئيس بشار استخلاص جملة نتائج عن حكاية الغارة. في مقدمتها أنها استهدفته هو شخصيا كرئيس ونظام. الغرض إظهار عجزه العسكري، وتعريضه للهوان والمهانة أمام العرب والسوريين. لو كنت وريثا محظوظا كبشار في وراثة تركة ثقيلة لأب ترك إلي «زُغب القطا» حل العقدة الإسرائيلية، لما وجدت حرجا في الاعتراف بما هو معروف سابقا، عن عدم قدرة سورية على تحقيق «التوازن الاستراتيجي» مع إسرائيل، التوازن الذي لم يتحقق في عهد الأب، ولا في عهد الابن. مرأى ضباط الأركان السوريين العظام (بكروشهم الملأى شحوما ودهونا) يؤكد عدم جاهزية سورية للرد عسكريا (ولا حتى رياضيا)، كما وعد البيان المختزل بأدب عن العملية.

النتيجة الثانية هي أن امتلاك دولة عربية لسلاح استراتيجي هو خط أميركي غربي أحمر خوفا على إسرائيل، لكي تبقى الدولة الرادعة بامتلاكها وحدها السلاح النووي في المنطقة. وغير مسموح لدولة إسلامية (إيران) بالحصول عليه، وهي على بُعد 700 كيلومتر عن إسرائيل. ربما راودت العقل العسكري السوري إمكانية شراء أو نقل تقنيات قنبلة نووية كورية خام. الغارة بعد وصول سفينة الشحن الكورية بحمولتها الغامضة، تؤكد استحالة إبقاء ما هو نووي بعيدا عن عيون أجهزة الفضاء والبر.

أميل إلى الاعتقاد بأن الرد السوري لن يأتي، ذلك أن سورية وإيران تخشيان من استخدام أميركا بوش / تشيني لأي رد على إسرائيل، كذريعة للقيام بتدمير المراكز النووية الإيرانية، أو هز أمن واستقرار نظام بشار، وصولا إلى محاولة إسقاطه.

لعل الرئيس بشار يدرك بعد الغارة (الأميركية/ الإسرائيلية) على نظامه أن ملفه غير الطبيعي مع إيران ربط مصير نظامه بالنظام الإيراني، وسوف يضعفه عربيا وسوريا. من هنا، حاجة بشار إلى نصيحة بالعودة إلى الالتزام بخط قومي عربي في سياسته الخارجية والإقليمية، ومصالحة مصر وسورية. ها هي إيران الصامتة عن الانتهاك الإسرائيلي الصارخ لاتفاق فك الاشتباك في الجولان، لم تشكل حماية له من قيام إسرائيل أو أميركا بعمليات خطيرة خلف خطوطه القتالية.

حضور سورية مؤتمر بوش للسلام قد يعيد قضية الجولان إلى ساحة الاهتمام الدولي، كقضية لا تنفصل عن القضية الفلسطينية. وأحسب أن بشار صادق في عرضه السلام التفاوضي مع إسرائيل، على الرغم من الغارة، أو الغارات التي سوف تتلوها.