البحث عن «رضا» الأول؟

TT

قبل بضعة ايام، حضرت لمفتي مصر الشيخ علي جمعة محاضرة ممتعة عن واقع البحث العلمي لدى المسلمين، المحاضرة القاها المفتي في مجلس رمضاني حاشد من مجالس الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد إمارة أبوظبي. وشرق فيها وغرب مؤشرا على رثاثة الحالة العلمية لدى المسلمين، وغياب روح البحث العلمي، وفقدان المسملين الحاليين لبرنامج عليم وعملي، كما كان لدى الأسلاف يوافق ظروفهم وعصرهم، وقد أنتج لنا البرنامج القديم نهضة حضارية، كما قال المفتي، من مظاهرها ازدهار العلم، ووجود المخترعات لدى المسملين مثل الاسطرلاب، الذي استعان به كولومبوس، مكتشف امريكا، وايضا البارود الذي اهتدى اليه ابن الرماح، مع الإشارة الى معرفة صلاح الدين الأيوبي بالكيمياء، الأمر الذي كان من أسباب انتصاراته.

وأكد على أهمية الابتعاث العلمي للخارج، معتبرا أننا كأمة إسلامية في حاجة إلى «طوفان من المبتعثين» لتعزيز الثقافة البحثية المنشودة.

واستشهد بتجربة مصر أثناء حكم محمد علي باشا، وعباس الأول في إرسال البعثات إلى فرنسا وألمانيا، مشيرا أن هذه البعثات العلمية قد تجلب المشكلات التي لا تتفق مع تعاليم ديننا وحضارتنا الإسلامية، لكن من الضروري الاستفادة من التجارب الناجحة في البلدان المتقدمة.

وهكذا مضى الشيخ في حديث لصيق بالتنمية وشجونها، بعيدا عن الأحاديث التي أصبحت شغل المشايخ الشاغل منذ فترة طويلة وحتى الآن، فإما أن تجد شيخا غائبا عن العصر يحدث جمهورا، إن تفاعل معه فلغيابه هو الآخر عن العصر، بحديث عن زكاة الإبل والبقر وأحكام الخراج وحكم إخراج الجن بالسحر...

وإما ان تجد لاعبين سياسيين، بعمائم فقهاء، ومشالح مشايخ، يوجهون الجمهور، المغيب أيضا، الى برامجهم السياسية ويحددون لهم مصارف عواطفهم الجياشة، حتى تتراكم وتدخر في بنك السياسة المتدينة أو الدين المسيس.

هذه «الروح» التي تحدث بها الشيخ علي جمعة هي الروح الإصلاحية التي كان يتحدث بها مشايخ وفقهاء تنوير واستنارة وفقه كثر في تاريخ الإصلاح الإسلامي الديني منذ بواكير عصر النهضة العربي الحديث، أي منذ مرحلة الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي أرسله مؤسس مصر الحديثة، محمد علي باشا مرشد للبعثة العلمية المصرية الى باريس (1826)، وصولا الى الشيخ علي جمعة، الذي كان قبل أن يلي منصب الإفتاء بمصر هو المشرف العام على الجامع الأزهر منذ عام 2000، وهو الحاصل على دكتوراه أصول الفقه من كلية الفقه والقانون بالأزهر، كما انه يحمل الليسانس في التجارة من جامعة عين شمس.

في ختام المحاضرة تحدث الشيخ جمعة ـ بألم ـ عن تردي احوال المسلمين، وغلبة التفاهة على واقعهم، ثم تكلم عن الحملات التي شنت عليه بسبب فتواه في الفائدة البنكية، وهو الرجل العارف بالفقه والاقتصاد الحديث، فقال إن فتواه كانت مباشرة جدا وخلاصتها جواز أخذ الفائدة البنكية؛ ففائدة الأرباح على الأموال المودعة في البنوك جائزة مع تغير غطاء العملات، التي لم تصبح كالسابق بالذهب والفضة.

وقال إن الربا، حرام، وسيظل حراما، لكن صورته هي ما نتحدث عنه، فهل الربا الذي تحدث عنه الإسلام وحرمه، هو ما يجري الآن في البنوك، وهل نفهم حركة الاقتصاد العالمي حقا، يقصد كمتصدين للفتوى؟!

وقال هذا كمن يقول لك: الخنزير أكله حرام، فتقول له: صحيح هو حرام، ولكن الحيوان الذي تشير إليه الآن ليس خنزيرا بل «شاة»! فيعيد عليك القول: الخنزير حرام ورجس...!

لعل هذه الصلابة والعناد والولع بالتشدد الذي يشير إليه الشيخ، هو سر المشكلة والانحباس في ذات المحل، وهو تشديد أو استرابة تعبر عن نفسها من خلال الفتاوى المضادة لأي فتوى ميسرة أو فيها رائحة عصرية، وبالفعل فقد أصدر ما يسمى بجبهة علماء الأزهر بيانا مضادا للمفتي حول فتوى الفائدة البنكية، وزاد في الطنبور نغمة غمزات وحملات صحف المعارضة «المدنية»! في مصر.

كل هذا يؤشر الى مسار انحداري في خط الإصلاح الديني، وإذا ما تحدثنا عن مصر، بلد الشيخ جمعة، فإننا نجد الخط الإصلاحي الديني بدأ قويا ومبشرا مع الشيخ «الإمام» محمد عبده، وكذلك مع تلميذه، المهاجر الطرابلسي السيد رشيد رضا، الذي غادر بلدته «القلمون» قرب طرابلس الشام، هربا من عسف العثمانيين، وجواسيس مفتي السلطان عبد الحميد، ومكر الشيخ المتصوف المعادي للعلم والتحديث أبي الهدى الصيادي.

بدأ المسار والخط متوهجا ثم انحدر كثيرا. ولنمثل بالسيد رشيد رضا نفسه، على ذكر فتوى أخذ الفائدة على صناديق الادخار أو الفائدة البنكية، وهي التي أفتى بجوازها الشيخ عبده وتلميذه رضا من قبل.

بعدما هاجر الفتى، أو قل هرب، الى مصر عبر ميناء بيروت من اجل اللحاق بالشيخ محمد عبده بمصر، وذلك بعدما أخفقت محاولة الفتى الاتصال بجمال الدين الأفغاني في الاستانة، والذي قيل انه مات مسموما سنة 1897، هرب الفتى في السنة التالية الى مصر، وتتلمذ على الشيخ عبده ولازمه، وسماه الإمام، وأحبه الشيخ عبده، وتبنى التلميذ آراء شيخه كلها، وكان يجلس بين يديه، وكتب سيرته في ثلاثة مجلدات، وحارب مع الشيخ عبده في كل معاركه، وحماه الشيخ، وساند رضا شيخه في مواقفه التنويرية، بل حتى في دفاع الشيخ عن قاسم أمين ورأيه في حرية المرأة (آخر عمر الشيخ رشيد رضا حارب الشاعر العراقي الزهاوي لأنه ناصر تحرير المرأة!). وكتب بقوة عن تخلف شيوخ الأزهر.

وكان الشيخ، جريا علة نهج أستاذه، يركز على الإصلاح الديني والتربوي، بعيدا عن مكائد السياسية، وتحدث صراحة كيف أنه حينما كانت نفسه تتوق للحديث عن السياسة، كان شيخه محمد عبده ينهاه عن الخوض فيها.

وكان الشيخ عبده وصل الى فكرة نهائية في أن الإصلاح يتمثل بخلق نخبة فكرية واجتماعية تقوم على ترويج العقلانية والإصلاح الديني، والبعد عن السياسة بعد حكاية ثورة احمد عرابي، التي شارك فيها بفعالية، ثم قال قولته الشهيرة «لعن الله ساس ويسوس»، وكان التلميذ رضا مطيعا لشيخه، وركز على الإصلاح التعليمي، ومن اجل ذلك وفي عام 1912 أنشأ في القاهرة، وتحديدا في جزيرة الروضة، مدرسة الدعوة والإرشاد، وكان من شروطها عدم الاشتغال بالسياسة، ودرس فيها بالإضافة للعلوم الإسلامية والعربية، لغات أجنبية والصحة والآداب والفن. وقد تخرج من هذه المدرسة نجوم ومشايخ وساسة، منهم الحاج أمين الحسيني، والشيخ يوسف ياسين أحد رجالات الملك عبد العزيز، والشيخ عبد الرزاق حمزة احد علماء الحرم المكي (رشيد رضا والعودة الى منهج السلف، السيد يوسف ص140).

لكن الشيخ رشيد وبعد رحيل أستاذه محمد عبده، انخرط في السياسة للعظم، وذهب أكثر باتجاه اليمين، وعادى تلاميذ عبده الذين ذهبوا باتجاه اليسار، مثل الشيخ علي عبد الرازق، صاحب المؤلف الخطير «الإسلام وأصول الحكم» الذي نقض فيه المقولة الأساسية لكل حركة تريد توظيف الدين في مشروع سياسي، بحجة «الخلافة» او غيرها.

وفي مناخ الصدمة الذي أعقب إلغاء كمال أتاتورك لمنصب الخليفة العثماني 1924، ثار الشيخ رضا، وهاج، وكثرت اقتراحاته، في إعادة منصب الخليفة، فتارة ساند العثمانيين، وتارة ملك مصر فؤاد، بل وحضَر له لمؤتمر الخلافة في القاهرة 1926، وقد أخفق، وتارة أيد الإمام يحيى إمام اليمن، وتارة نادى بها للملك عبد العزيز آل سعود، وقد أثر عليه هذا المزاج، فصار أكثر نصوصية، أو كما قال الباحث السيد يوسف عاد الى السلفية النصوصية الشامية (لنتذكرالجذور التيمية لهذا المزاج في الشام). وصعد من السياسة في الدين وقال صراحة (المنار عدد23 ابريل 1926):« نصب الإمام واجب في الملة،(....) إن الجماعة التي امرنا بها باتباعها لا تسمى جماعة المسلمين إلا اذا كان لها امام بايعته».

ودقق في هذه الجملة الأخيرة، أيها القارئ، ستجد فيها التبشير الأخير بميلاد خطاب حسن البنا ومن بعده سيد قطب في اشتراط امتلاك الجماعة الدينية للدولة والسلطة من اجل أن يكون المجتمع المسلم شرعيا! كما لاحظ ـ بحق ـ السيد يوسف.

ولربما هذا هو الذي جعل حسن البنا يثني على الشيخ رضا والمنار(في نسخته الأخيرة طبعا بعد وفاة شيخه عبده) ويقول إن رضا فكر آخر عمره بالالتحاق بجماعة الإخوان المسلمين.

لقد ابتلع الإصلاح الديني الذي قدمه الشيخ عبده، بانغماس رشيد رضا في السياسية وجره للدين فيها، فخسر الطرفان، وتجاوز حسن البنا ملهمه رشيد رضا... وذهب بعيدا عنه، لكن بالانطلاق منه!

فهل تعود جذوة الإصلاح الديني «النقي» بعد هذا المشوار أو «الانعطافة» الطويلة التي دخل فيها قطار رشيد رضا...

هل نستعيد رضا الأول، بعد أن أرانا رضا الثاني نتائجه منذ أزيد من قرن ؟!

ربما كان الجواب عند الشيخ علي جمعة.