هل من انقلاب على المضامين التربوية العربية؟

TT

كل التلاميذ والطلبة في الوطن العربي، عادوا الى معاهدهم وجامعاتهم وشغل كل طالب علم المقعد الذي سيتحمله طيلة سنة دراسية كاملة. ولا شك في أن العودة المدرسية والجامعية، تشكل حدثا بأتم معنى الكلمة، يتطلب التجند الكامل سواء بالنسبة الى الدولة، كجهاز مسؤول عن المؤسسات التربوية أو بالنسبة الى الأسرة، التي تبحث عن أفضل الظروف التي تؤمن عودة أبنائها بمعنويات مرتفعة.

ولكن حدث العودة المدرسية مناسبة أيضا لمساءلة نوعية التعليم المتدني للمنظومة التعليمية في الوطن العربي، خصوصا أن تقديرات تقرير التنمية البشرية قبل سبع سنوات، تقول إن نسبة الأمية بالمفهوم العصري ستصل عام 2015 الى نحو 60 مليون أمي أي أقل بقليل من ربع الحجم الديمغرافي العربي الشيء الذي يستبطن كارثة قادمة على عجل.

ومثل هذا التوقع يعني أن سياسات التعليم في الوطن العربي التي انطلقت منذ الخمسينات والستينات من القرن الماضي، لم تحقق أهدافها المرسومة لها، والتي تتجاوز تمكين الطالب من فك الحرف. ومن جهة أخرى، وبالنظر الى مجموعة التغيرات التي شهدها العالم؛ وعلى رأسها انتشار ثقافة العولمة والتكنولوجيا، فإن المنظومة التعليمية في بلداننا لا تزال متخلفة وغير قادرة على الصمود بنفس الملامح والأدوات وخاصة بنفس الذهنية.

ولأن هذه المنظومة التربوية تعيش في كهف مسيس ومؤدلج، فإن روابطها بسوق العمل غير قوية: فهي في واد ومتطلبات سوق العمل الجديدة في واد آخر، وهو ما أسهم بشكل كبير في إنتاج ما يعرف بالبطالة الثقافية المقنعة، باعتبار أن تعليمنا لا يولي الاعتبار اللازم لمسألة الجدوى، التي يقوم عليها سوق العمل في العالم اليوم.

والملاحظ أنه رغم صيحات الفزع التي أطلقها أساتذة كبار أصحاب ضمير مهني وأيضا تلك الأرقام المفجعة في تقارير ذات مصداقية، فإن دولنا فهمت أن كل المطلوب منها هو إدخال بعض أجهزة الكومبيوتر في مؤسساتها التعليمية ورفع معلوم التسجيل. طبعا لا نقصد التشكيك في أهمية توفير بنية تحتية اتصالية متطورة، ولكن لا معنى لهذه البنية ما لم نغير من سياساتنا التربوية وراجعنــا بصرامة مضــامين برامج التعليم وأشكــال التلقين.

إن المضــامين التي قدمت لطلاب الستينات والسبعينات، غير صالحة بالمرة لطلبة اليوم، فهي مضامين ناقصة ولم تفلح في إنتاج نخب متفوقة بالمعنى الابداعي والعلمي (نسب النجاح المعلنة تفتقد الى المصداقية ومسيسة ولا ننسى أن منصب العميد في بلداننا هو منصب سياسي قبل أن يكون علميا) وحافظت عل تجديد نسل قيم السلبية والرأي الواحد، بالإضافة الى ما نراه ونسمع عنه من تدهور أخلاقي يمارس في الإدارات وفضاءات العمل. ونعني بذلك ظواهر المحسوبية والزبونية ومحاولات قتل الكفاءات، لينعم بالامتيازات «الشطار» الجدد.

وحتى الصعوبات التي نعيشها من أجل الدفاع عن قيم الديمقراطية والحرية هي من نتاج التنشئة التربوية، غير القائمة على تصور يبني ذواتاً حرة ومتحررة وخلاقة وتستميت من أجل حقوقها وواجباتها. لذلك، فإن المنظومة التعليمية في بلداننا، تحتاج ليس الى تغيرات أو إصلاحات كما يحصل من حين الى آخر في الولايات المتحدة أو في أوروبا، كلما تم التفطن الى وجود متفوقين خارج فضاءاتهم التربوية، بل نحن في أمس الحاجة الى ثورة حقيقية، تعيد حياكة المضامين التربوية، بعيدا عن ذهنية التلقين والتلقي السلبي دون مشاركة ونقاش وجعلها مواكبة للعصر وقادرة على إنتاج نخب تنتصر للقيم التي ندافع عنها اليوم نظريا فقط.

إن المنظومة التربوية، هي التي تعبد الطريق وتهندس الذهن وتشكل معماره، لذلك فإن الجهد الأكبر من المفروض أن ينصب على هذه المنظومة المهترئة، والتي لم نجن منها غير تعلم الحروف الأبجدية.

وإذا كنا فعلا جادين في مسألة التنمية والتقدم، فلنعلم أن قوامهما الرصيد البشري ولكن رصيدا بشريا حرا يهوى الابتكار والنقد والنقاش والتفكير الحر. فهل تثور مؤسسة التعليم في الوطن العربي على مضامينها ونوعيتها وتنقلب عليها أم أنها ستضع يدها في مياه باردة ومثلجة في انتظار تحول ربع العرب الى أميين؟

[email protected]