رجل الشفاء والوطن والخبز

TT

كان حيدر عبد الشافي مثال الفلسطيني المناضل والعامل معاً. لم يحترف السياسة بل المساعدة الإنسانية. ولم يطلب من رفاقه أن يزعموه بل أن يساعدوه على غزة وعلى فلسطين، وعلى أنفسهم أيضا. كان إنسانا كطبيب، وسياسيا كإنسان، ومناضلا كإنسان متفوق.

قابلت الشاعرة الراحلة فدوى طوقان موشيه دايان فحملها رسالة إلى الرئيس جمال عبد الناصر. وتحول اللقاء وأمر الرسالة ـ التي رفضت ـ إلى حفلة علاقات عامة ومهرجان نثري شاعرته فدوى طوقان التي كان لها نفوذ عند عبد الناصر وعند موشيه دايان. مرات عديدة التقى الدكتور حيدر عبد الشافي موشيه دايان. فقط بعد وفاة دايان عرفنا أن حيدر عبد الشافي كان يذهب الى اللقاء مرفوع الرأس، ليطالب، بكل شجاعة، بحقوق الفقراء والمساكين والمرضى والمخيمات والمستشفيات.

حيدر عبد الشافي كان العربي المحترم في عصر الثرثرة واللغو والتزاحم على الأبواب. كل الأبواب. باب الغرب وباب الجاه العربي وباب السلطة وباب المال، وباب مش مهم أي باب. لم يغادر عيادته كطبيب يعتني بالمحتاجين ولا غادر نفسه إلى أحد. وكان أبو عمار يغار على زعامته من كثيرين، أبو إياد وأبو جهاد وأبو السعيد، ولكنه خاف عليها من رجل واحد. الطبيب المحترم وليس «الطبيب المفاوض» كما نعاه عنوان الصفحة الأولى في «الشرق الأوسط» يوم الأربعاء.

هناك مفاوضون كثيرون تحدثوا باسم المنظمة أو السلطة. حيدر عبد الشافي تحدث باسم الفلسطينيين. باسم تاريخه الشخصي. باسم تلك السيرة الطويلة الناصعة التي لم تقرب العمل السياسي إلا عندما يكون محصورا في الإطار الوطني الخالص والمحترم. خصوصا المحترم. وفي ما عدا فقراء غزة وبسطاءها لم ينتم إلى أحد ولم يلحق بركب أحد. لم يغره شيء ولم يغوه شيء. ظل وحيداً في عيادته. وفيما شرع العرب «إمارات» القتل والذبح وصحوة قندهار، بنى حيدر عبد الشافي إمارته بعيدا عن كل ضوء، قريبا من كل طالب علاج وشفاء ودواء. وغالباً، الخبز.

كلما كان هناك بشري من هذا الحجم، تمنيت لو أنني عرفته، لكي أقول لأولادي لقد صافحت يدا طافحة بالخير، في عصر الخداع والقتل ونشر صناعة الجدب والموت. لم يكن حيدر عبد الشافي «طبيبا مفاوضا». كان فارسا بدرجة إنسان.