«الفتوحات العربية الكبرى» في قرن تغير وجه العالم

TT

حوالي عام 680 كان راهب يدعى «جون بار بنكايسي» يعمل على موجز للتاريخ في دير بعيد قرب نهر الفرات، في ما هو الآن جنوب شرق تركيا. وعندما وصل في التدوين الى المرحلة التي هو فيها خطر له أن يتفاكه قليلا وهو يتذكر الفتح الإسلامي للشرق الأوسط: «كيف يستطيع رجال عراة لا دروع لديهم ولا تروس أن ينتصروا وان يخفضوا كبرياء الروح الفارسية؟ لم يمض زمن قصير حتى كان العالم في يد العرب. لقد أخضعوا المدن المحصنة، وسيطروا على كل شيء من البحر الى البحر، ومن الشرق الى الغرب. من مصر الى كريت وكابا دوشيا، ومن اليمن الى أبواب الآن (القوقاز) وبلاد الأرمن والسوريين والفرس والبيزنطيين والمصريين وجميع المناطق الواقعة بينها. لقد أصبحت يدهم فوق الجميع، كما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم).

بالنسبة الى «جون بار بنكايسي» الذي يتأمل أحداث العالم من ديره، «تلك هي ارادة الله». لا شيء آخر يمكن أن يفسر عنده هذا التغيير الهائل في وجه البشرية! بهذه السطور يقدم المؤرخ هيو كينيدي لكتابه الجديد «الفتوحات العربية الكبرى» (دار ويدنفيلد اند نيكلسون) والذي يحاول من خلاله تفسير بعض الظواهر المعاصرة بالعودة الى فصول قديمة من التاريخ. ويبدأ كينيدي كتابه بالقول انه مجرد عمل سردي لمجموعة حقائق. أي ليس فيه الفذلكة الغربية ولا اللفظية التي تفطس الأعمال العربية الحديثة، بعكس ما نحا اليه المؤرخون المؤسسون، الذين أدركوا أن اللفظيات الفارغة تقتل الحقائق الساطعة، تنفر الأقربين وتصد البعيدين.

لم يكن الراهب بنكايسي وحده مذهولا. فالمؤرخ كينيدي يقول ان الجيوش الاسلامية لم تكن في أكبرها تزيد على 20 ألف رجل. ولكن عزيمة غريبة جعلتهم يغطون مساحات شاسعة في أراض صعبة ووعرة، ويسقطون امبراطوريات وممالك كبرى ويتولون الأحكام فيها: «إنها سرد لحكاية الشجاعة والإقدام، ولكنها أيضا لا تخلو من القسوة والتدمير».

النقطة الثانية التي يبحثها كينيدي هي كيف استطاع العرب بعد الاستيلاء على تلك الامبراطوريات، الحفاظ على هويتهم وحضارتهم في بحار من المناخات الغريبة وغالبا العدائية. واستطاعوا في الوقت نفسه نقل الكثير من الشعوب الى الإسلام، كما في مصر وبلاد الهلال الخصيب وأفريقيا الشمالية، حيث أصبحت العربية هي اللغة الأم.

يحصر كينيدي كتابه ـ أو سرده ـ بين وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ونهاية الدولة الأموية (750) التي لم تتغير حدودها حتى العام ألف، بداية التوسع نحو الهند، ويعزو ذلك الى انه في عام 632 كان الاسلام لا يزال مقتصرا على الجزيرة وبعض صحراء سورية والعراق. وكان معظم سكان سورية يتحدثون اليونانية أو الآرامية، وأكثر أهل العراق كانت لغتهم الفارسية أو الآرامية. وفي مصر كانت اللغة إما قبطية أو يونانية. وفي إيران البهلوية. وفي أفريقيا الشمالية، اللاتينية أو الإغريقية أو البربرية. وقد تغير كل ذلك بسرعة مذهلة. وبعد قرن من وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) كانت كل هذه البلدان، إضافة الى إسبانيا والبرتغال وأوزبكستان وتركمنستان والسند، خاضعة لحكم إسلامي.

إلى اللقاء