قرار الكونغرس الأميركي: «كومنولث» طائفي بزعامة إسرائيلية !

TT

لم يكن ينقص الصورة الأميركية، البشعة جداً والكريهة أصلاً، إلا هذا القرار الأخير، الذي اتخذه «الكونغرس» الأميركي والذي دعا فيه ليس إلى «فَدْرلة» العراق وإنما إلى تقسيمه، لتصبح أميركا في هذه المنطقة التي لها مع الأميركيين تاريخ مؤلم طويل أكثر كرهاً وأكثر بشاعة والمحيِّر هنا هو أنه كلما لاحت بارقة أمل باحتمال أن تحل محل هذه الصورة صورة أخرى، أفضل منها، ترتكب واشنطن حماقة جديدة تزيد الطين بِلَّة كما يقال.

حتى إيران، التي تقوم استراتيجيتها القديمة والجديدة على ضرورة تفتيت هذا البلد وتقسيمه، لتتقي «شرَّه»، لم تستطع تحمُل فجاجة قرار الكونغرس الأميركي هذا، وحتى قادة الميليشيات العراقية المذهبية، الذين لم يكفوا عن المطالبة بتحويل هذا البلد إلى كيانات طائفية وعرقية متباعدة، اضطروا لمجاراة عواطف غالبية أبناء الشعب العراقي والتنديد بهذا القرار ورفضه ولو من أجل «رفع العتب» وإبعاد الإحراج عن أنفسهم.

كل القوى العراقية الحقيقية والوهمية، وبما في ذلك ميليشيا «جيش المهدي» و«قوات بدر» وبالطبع «حزب الفضيلة» رفضت قرار الكونغرس الأميركي هذا المشار إليه وهي لم تستطع تحمُّل فجاجته ووقاحته وهذا ينطبق عليه القول: «رب ضارة نافعة»، فحسنة هذا القرار الذي وصفه الذين أصدروه بأنه غير ملزم أنه وحَّد مشاعر العراقيين وفجر عواطفهم الجياشة مع انه لم يوحد بعد لا بنادقهم ولا توجهاتهم ومواقفهم السياسية.

والسؤال هنا هو: لماذا يا ترى ارتكب الكونغرس الأميركي هذه الحماقة واتخذ هذا القرار الأهوج بينما الإدارة الأميركية تنهمك، بعد كل الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها في العراق وغير العراق، في السعي لتلميع صورة أميركا البشعة والتي غدت أكثر بشاعة بعد هذا القرار الأخير..؟!

ربما يرى البعض أن كل ما في الأمر أن الكونغرس أقدم على ما أقدم عليه من قبيل الإمعان في«التنكيد» على الرئيس جورج بوش و«تنغيص» عيشه ولذلك فإنه قام بما قام به وهو يعرف أنه غير ملزم للإدارة الأميركية.. وبالتالي فإن المسألة من أولها إلى آخرها لا تتجاوز حسب التعبير اللبناني الدارج مجرد «الحرتقات» الداخلية ومجرد الصراعات المحتدمة بين الجمهوريين والديموقراطيين وتسويق المواقف والبرامج عشية الانتخابات الرئاسية المقبلة التي باتت تطرق الأبواب بكل قوة.

لكن هذا التقدير، الذي ربما يعتبره البعض وجيهاً، لا يلبث أن يفقد وجاهته عندما نتذكر أن تفتيت وتقسيم ليس العراق وإنما المنطقة كلها كان هدفاً قديماً للإسرائيليين والأميركيين على حد سواء، والمؤكد أن الدستور العراقي، الذي جاء تجسيداً للهدف الذي من أجله جرى تعيين سيىء الصيت والسمعة بول بريمر مندوباً أميركياً سامياً في العراق، قد تم وضعه في لحظة مريضة اهتزت فيها المعادلات تلبية لهذا الهدف واستجابة لطموحات نهازي الفرص، وإن على حساب شعوبهم وأوطانهم.

لا بد من التأكيد هنا على أن هذا الدستور لم يوضع، بكل ما تضمنه من مواد خطيرة ومسيئة للعراق ووحدته، من أجل وضع الأكراد المميز في منطقة كردستان، فالعراقيون بمعظمهم، سنة وشيعة، يرون أن هناك ضرورة تاريخية ملحة لأن تكون لـ «الكُرْد» خصوصية ينفردون بها وان تقتصر «الفيدرالية» المنشودة على هؤلاء وعلى العرب كأمتين شقيقتين تتشاركان الوطن العراقي ولا تعتبر أي منهما طارئة عليه.

وبهذا ولدى الحديث عن مخطط قديم ـ جديد لتفتيت العراق وتقسيم المنطقة فإنه لا بد من إيضاح أن المقصود ليس الأكراد، لا من قريب ولا من بعيد، فهؤلاء أمة ظُلمت على مدى تاريخ هذه المنطقة وهؤلاء من حقهم، مثلهم مثل العرب والفرس والأتراك وكل أمم الأرض، أن تكون لهم دولتهم القومية والمستقلة، وهؤلاء من حقهم أن يرفضوا الصيغة المذهبية والطائفية بالنسبة لـ«الفيدرالية» المقترحة في العراق وأن يتمسكوا بالصيغة العرقية والقومية وعلى أساس أن تكون هذه «الفيدرالية» عربية ـ كردية... وفقط.

ولذلك وخلافاً لبعض التصريحات المتسرعة فإن الموقف الكردي الحقيقي إزاء القرار البائس الآنف الذكر الذي اتخذه الكونغرس الأميركي هو ما جاء في تصريحات وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري التي أعلن فيها رفضاً قاطعاً وواضحاً وصريحاً لهذا القرار والتي تمسك فيها بوحدة العراق ورفض تقسيمه وهنا فإن التقسيم شيء والصيغة «الفيدرالية» على أساس قومي، عربٌ وأكراد، شيء آخر.

لا توجد أي مشكلة في أن يتفق العراقيون على أن تحكم العلاقات بين العرب والأكراد صيغة «فيدرالية» والمعروف أن بدايات سبعينات القرن الماضي كانت شهدت اتفاقية متقدمة، أبرمها صدام حسين مع الزعيم الكردي التاريخي الملا مصطفى البارزاني، أعطت لإقليم كردستان ـ العراق وضعية خاصة وكان من الممكن أن تكون هذه الوضعية أنموذجا لحل المشكلة الكردية في المنطقة كلها لو أن الرئيس العراقي السابق لم ينقلب عليها ويستبدلها بمذابح وحشية أزهقت أرواح عشرات الألوف من أبناء هذا الشعب الطيب الذي لا يستحق إلا كل الخير.

إن المشكلة التي تكمن في قرار الكونغرس الأميركي هذا هي أنه جاء ليذكر العرب بذلك المخطط الذي كثر الحديث عنه في سبعينات القرن الماضي والذي على أساسه أريد لهذه المنطقة أن تتشظى وتتفتت على أسس طائفية ومذهبية وكي يتم إنشاء «كومنولوث» طائفي ومذهبي تلعب فيه إسرائيل الدور القيادي الذي تلعبه بريطانيا في الـ«كومنولوث» البريطاني.

في بدايات سبعينات القرن الماضي وبينما بدأت الحرب الأهلية، التي اندلعت في ذلك الحين، تدخل المدن والقرى والشوارع والأحياء على أسس طائفية إسلامية ـ مسيحية) ساد انطباع بأن إسرائيل غدت معنية بتمزيق وتقسيم ليس لبنان وحده وإنما المنطقة كلها على أساس ديني وطائفي وبحيث تقوم كيانات ضعيفة يسهل جمعها في إطار تجمع تأخذ فيه الدولة الإسرائيلية موقع القيادة والزعامة وعلى غرار الموقع الذي تحتله بريطانيا في الكومونولث البريطاني المعروف. في تلك الفترة كانت ظاهرة المد القومي العربي، التي تعاظمت في عقدي خمسينات وستينات القرن الماضي، قد بدأت بالانحسار والتراجع على أثر الضربة القاصمة التي تلقتها هذه الظاهرة بهزيمة العرب البشعة والنكراء في حرب يونيو عام 1967 وحيث في تلك الفترة بدأت النزعة الانشطارية على أسس عرقية ومذهبية وطائفية تظهر في أكثر من مكان في المنطقة العربية... الأمازيغية في الجزائر والمغرب، والقبطية في مصر، والعلوية في سوريا.. والشيعية في العراق.

وهذا كله قد شجع إسرائيل، التي كانت تراقب ارتفاع ألسنة نيران الحرب الأهلية اللبنانية بارتياح واستمتاع كبيرين، على اتخاذ خطوة أعْرض وهي التفكير جديّاً بـ«لبننة» المنطقة العربية كلها بحيث تقوم دويلات، كدويلات الطوائف التي حلَّت محل الدولة الأموية العظيمة في الأندلس، يسهل جمعها في إطار «كومنولث» ديني ـ طائفي تأخذ الدولة الإسرائيلية فيه مكانة بريطانيا في الـ«كومنولث» الذي جمعت في إطاره كل الدول التي أُنشئت بعد رحيل البريطانيين عن مستعمراتهم القديمة.

وحقيقة أن هذا التفكير الإسرائيلي، الذي يبدو أنه كان جديّاً وأنه لا يزال جديّاً رغم نفي الإسرائيليين المستمر له، قد تلقى حقنة إنعاشٍ كبيرة عندما تحول المشروع العراقي، الذي جاء به الأميركيون ليكون أُنموذجاً ديموقراطياً في المنطقة كلها، إلى مشروع طائفي ومذهبي هدفه تحطيم الدولة العراقية وتقسيمها إلى كيانات مذهبية وطائفية هزيلة عنوانها « «الفيدرالية».

إنها خطوة متقدمة جداً أن تتخلص تجارب الحكم في المنطقة العربية وفي العالم كله من المركزية الشديدة لحساب النظام الفيدرالي كما هو الوضع في ألمانيا وفي بلجيكا وسويسرا والولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة والهند ودول أخرى كثيرة لكن بشرط أن تكون الدولة المعنية مقتدرة وقوية ولا تعيش حالة التفسخ المرعب التي تعيشها الدولة العراقية الآن.. إن الهروب من حرب أهلية مندلعة على أسس دينية وعرقية إلى الوضعية «الفيدرالية» هو أسوأ الحلول وهو سيؤدي حتماً إلى بروز كيانات طائفية ستبقى تتحارب بلا نهاية والى ما شاء الله على الحدود الناشئة وعلى توزيع تركة الدولة المركزية المنهارة وستأكل هذه الكيانات بعضها بعضاً على طريقة الخلايا السرطانية.

لا شك في أن فكرة التخلي عن المركزية الشديدة لحساب إعطاء صلاحيات إدارية أوسع وأكثر للمحافظات والمقاطعات النائية والقريبة فكرة رائدة وجميلة لكن بشرط ألا يتم هذا والدولة كلها ضعيفة وبشرط ألا تكون المكونات المذهبية والطائفية لهذه الدولة متخندقة في خنادق المواجهة وتشن على بعضها حروب تطهير مذهبي وطائفي في المناطق المختلطة على غرار ما يجري الآن في المناطق المختلطة في العراق.