وقع المحذور: العقد الوطني العراقي.. ومشروع السناتور بايدن

TT

وأخيرا وقع المحذور، وأصدر مجلس الشيوخ الأمريكي قبل أيام قراراً غير ملزم بفرض الفدرالية على العراق. إن إلزامية أو عدم إلزامية القرار لا تقلل من شأن القرار وخطورته في أي حال من الأحوال، وهذا هو السياق القاعدة في العلاقات الدولية، فكم من دولة اختفت من على خارطة العالم أو قسمت، وكم من شعب تجزأ أو انقطعت به السبل وتحول بين عشية أو ضحاها الى طوابير لاجئين، بناء على قرارات أممية استندت اصلاً الى وعد أو إعلان نوايا، أو بيان ختامي، أو توصية تضمنها كتاب، سمه ما تشاء اسود أو ابيض، اكتسب بمرور الوقت مرجعية شرعية مهدت لتغييرات في الخارطة الجيوسياسية، والتاريخ زاخر بالشواهد والأدلة على ما نقول.

أياً كانت ملاحظاتنا وتحفظاتنا حول تقرير بيتريوس/كروكر الذي صدر قبل أسبوعين فإنه أشار ضمناً الى امكانية ان يتعافى العراق من محنته دون المساس بوحدته، وهو ما لا ترغبه كما يبدو مراكز هامة في صنع القرار الأمريكي، والتي لا تزال تصر بشكل يدعو للحيرة والاستغراب بأن الحل الامثل لإنهاء مشكلة العراق هي في تقسيمه من خلال فرض نموذج للفدرالية يستند على أسس عرقية وطائفية.

يتضمن القرار مقتبسات مكتوبة ومقروءة يراد منها تكريس الانطباع بأن العراقيين قد حسموا أمرهم واختاروا النظام الفدرالي كقدر لهم، مشيراً الى فقرات في الدستور العراقي المثير للجدل، وقرار مجلس النواب في 11 تشرين الأول الماضي حول الآليات المعتمدة في تحويل المحافظات الى اقاليم، وتصريحات لكبار المسؤولين في الدولة، ثم يعرج على حالة الأمن المتفاقمة ويشير الى أن أصولها خلافات سياسية عميقة، القرار يؤكد منافع الفدرالية بشهادة استقرار الأوضاع في إقليم كردستان وانطلاق حملة التنمية وإعادة الإعمار فيها دون معوقات او مشاكل، وهو ما يمكن تحقيقه في بقية مناطق العراق في ما لو اخذ بالفدرالية، ويخلص القرار في النهاية الى أن على الولايات المتحدة أن تشجع على الحل السياسي من خلال الفدرالية، وأضيفت عبارات تجميلية لا تغير من خطورة الطرح عندما يتحدث القرار عن المرجعية الدستورية واحترام رغبات وأماني الشعب العراقي من خلال قادته السياسيين وضرورة الضغط على الحكومة من اجل تشريع قانون توزيع الموارد النفطية المثير للجدل، وحتى يتحقق الحلم لا بد من ضمانة المجتمع الدولي والدول المجاورة والإقليمية لأمن وسيادة العراق ولكن ذلك لا يكفي إذ لا بد من تدابير وإجراءات لا يتحول فيها العراق الى محضن للإرهاب أو أن يصبح مصدر قلق وتهديد لجيرانه ، النموذج المقترح يدعى انه يحمل في طياته عصا موسى ويعد بطرح الفدرالية كوسيلة للخلاص، ولكن بنفس الوقت يغفل الكثير الكثير من الحقائق الموضوعية التي يمكن ان تقلب الطاولة وتكشف المستور وتسقط عن المشروع ورقة التوت.

وربما باستثناء العاصمة بغداد، تطور العنف منذ بعض الوقت في بقية المحافظات من حرب طائفية في المقام الأول الى حرب أهلية داخل الطائفة الواحدة هو المشهد الطاغي حالياً في المحافظات الجنوبية حيث الصراع في البصرة والناصرية والديوانية والسماوة ليس طائفياً وانما صراع فيما بين ابناء الطائفة الواحدة على النفوذ والمال والسلطان وربما مسائل أخرى... وقس على ذلك الصراع في الأنبار ونينوى وديالى وصلاح الدين حث لم يعد صراعاً طائفياً وإنما هو صراع بين الغلو والاعتدال، صراع بين الحياة والموت ولا ادري كيف سيعمل النموذج المقترح على حل هذه المعضلة، اللهم، الا في اطار خطة لاحقة مكملة ربما تطرح في المستقبل غير البعيد لتجزئة المجزأ وتقسيم المقسم.

نقطة أخرى جديرة بالملاحظة وهي العلاقات البينية فيما بين المحافظات، حيث يفترض النموذج المقترح بأن الخلافات بين المحافظات وكذا بين الأقاليم معدومة أو لا قيمة لها، لذلك هو لا يشير اليها ويتجاهلها بالكامل في الوقت الذي تنتظر فيه التسويات الإدارية القادمة فيما لو نفذت المادة 140 من الدستور ملفات ساخنة للغاية يمكن ان تفجر صراعات حادة بين الأقاليم يصعب التنبؤ بنتائجها، وما يزيد الطين بلة انه مع عظم المخاطر واحتمال توتر العلاقات البينية بين الأقاليم حيث تنشأ الحاجة في مثل هذه الحالات الى حكومة مركزية قوية، يقلص المشروع دورها الى شرطي حدود وبنك لتحويل عائدات النفط ليس إلا؟ هل هذه هي وظيفة الدولة في بلد يشهد كل هذا الاضطراب والفوضى؟ بالتأكيد لا ومن المتوقع في ظل ذلك ان تتفاقم الحالة فيما لو ظهر المشروع الى النور.

فترة ما بعد فرض الفدرالية لا تعني القرار المذكور من قريب او بعيد وحال السناتور بايدن كحال من يحمل حملاً ثقيلاً يريد ان يطرحه في اقرب محطة ويمضي، وهكذا يصبح المشروع وكأنه رمية في الظلام، أو رمية الصاروخ التي تستند على فلسفة (ارم وانس Fire & forget)، وهنا يكمن القصور القاتل في هذا النموذج انه لا يعكس مشروعاً متكاملاً يمكن التعويل عليه بل هو خطة قصيرة النظر لا تصلح لعلاج أزمة مستفحلة.

لا شك إن الإدارة الأمريكية في وضع لا تحسد عليه وهي تريد كما نسمع ان تتخلص من عبئ بات يقض مضاجعها، وتفكر ربما في مخرج يسهل عودة جنودها ويوقف هذا النزيف غير المسبوق في الموازنة الامريكية، ولكن هل من المعقول مقايضة ذلك بضياع مستقبل بلد وعد بأنه سيكون واحة ومصدر الهام لجميع دول المنطقة ازدهارا واستقرارا وأمنا؟؟ هل من المعقول السعي في تحقيق تلك الرغبات بأي ثمن، بل حتى لو كان هذا الثمن ان يذبح العراق؟؟

لا ادري كيف فاتت هذه الملاحظات عن المشرعين الأمريكان، أم انهم باتوا غير معنيين بمستقبل العراق، سواء انتهت هذه المسرحية السوداء بالوحدة أو بالتقسيم؟، بالنجاح أو بالفشل.

مشروع القرار يتحدث عن دور ذي مغزى للولايات المتحدة والمجتمع الدولي ولدول الجوار ومجلس الأمن وغير ذلك في إنجاح المشروع سالف الذكر، وإذا كان لكل هذه الأطراف اثر في تكييف مستقبل العراق، وهي كما أظن كذلك فالأولى أن توظف هذه الطاقات لدعم مشروع أفضل له فرصة مؤكدة في الحياة، إلا وهو مشروع المصالحة الوطنية الذي يمكن ان تعاد كتابته مجدداً في إطار مشروع (العقد الوطني العراقي) الذي أعلناه قبل أيام.

الموقف العراقي الرسمي والشعبي الرافض، كان هو الملفت للنظر، وهذا الموقف لم يشكل مفاجأة لأحد ذلك أن العراقيين لا يفضلون مثل هكذا قرار، فحسب استطلاع للرأي قامت به (آي بي سي) في آب الماضي، فان 62% من الشعب العراقي يريد حكومة مركزية موحدة في بغداد.

نسبة 28% من العراقيين فقط يؤيدون قرار بايدن ـ برواونيك (انقسام العراق) مما يؤكد رغبة العراقيين الحقيقية في تواصل الشراكة المصيرية في وطن واحد، ولكن مجرد الإعلان عن الرفض لا يكفي، بل لا بد من ترجمة واقع جديد، تعاد فيه الحسابات على أساس الخيارات المحدودة التي باتت واضحة وضوح الشمس ذلك ان فشل العراقيين في صياغة مشروع يوحدهم حول الكليات الوطنية، سوف يعني فرض مشروع بايدن بكل ما فيه من ضياع... بل من خسارة صافية في كل شيء وهذا ما لا يرغب فيه احد من العراقيين، صحيح أن لا احد ـ متى توحدت ارادة العراقييين ـ يستطيع ان يملي عليهم قدراً هم رافضوه ولكن هل يتحقق الأمل ويتحد العراقيون أولاً! هذا هو السؤال الذي ما زالت إجابته معلقة الى اليوم.

الوقت ضيق، والفرص محدودة، ومشروع «العقد الوطني العراقي» يشكل ارضية جاهزة يمكن ان ينطلق منها الجميع الى سفينة المشروع الوطني الذي يستوعب الجميع ويحميهم من الطوفان المتوقع ربما باستثناء من اختار سبيل ولد سيدنا نوح عليه السلام في حوار اقتبسه من القران الكريم «وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ » (هود:43) في مشروع «العقد الوطني» ثوابت وطنية واضحة لو أمكن الاتفاق عليها سريعا

لحصنت مستقبل العراق وأغلقت الأبواب والنوافذ إزاء طروحات ومشاريع مشبوهة توحي وكأن العراق بات سلعة تباع وتشترى في المزاد تحت سمع العراقيين وبصرهم.

كلمة أخيرة، اذ ربما يقول قائل إن مشروع «العقد الوطني العراقي» لا يبتعد كثيراً عن قرار الكونغرس من زاوية انه أشار في أكثر من مكان الى الفدرالية واللامركزية وهذا ما ورد في نص الفقرة (14) من المشروع:

«..... مع توفير قدر معقول متفق عليه من الفدرالية أو اللامركزية في إدارة المحافظات» وهو ما تكرر ايضاً في الفقرات (10،19) في المشروع، وأنا لا أنكر أن مسألة الفدرالية تشكل واحدة من الكليات الوطنية الأساسية المختلف عليها عراقياً، ورغم الجدل الواسع حولها فإنها لم تحسم حتى هذه اللحظة، لذلك وردت في صلب المشروع، بل كررت في أكثر من مكان ولكنها فتحت المجال أمام خيارات عدة تتراوح بين الفدرالية واللامركزية، والمشروع الى جانب ذلك ليس مع حكومة مركزية هشة بصلاحيات لا قيمة لها، وهذا ما ورد جليا في الفقرة (14و22)، ولو تم وأد الفتنة الطائفية وإفرازاتها المكروهة في المحاصصة، فانه لا مجال والحالة هذه في تطوير ادارة الدولة وتوزيع الصلاحيات بين المركز والإقليم أو المحافظات على غير الأسس المهنية والحاجات الوطنية وهو أمر مقبول ولا غبار عليه.

إن الفدرالية المطروحة في المشروع استندت أساسا الى قبول إقليم كردستان كحالة خاصة. (الفقرة 12) والمشروع لا يروج لأقاليم أخرى في بقية مناطق العراق حيث أن الأمر مع ذلك متروك برمته للعراقيين ان يختاروا بملء إرادتهم وكامل حريتهم شكل دولتهم المقبلة من دون ضغط أو إكراه أو إملاءات تأتي من فوق، وأياً كان خيار العراقيين لاحقاً فإن حكومة مركزية ذات صلاحيات هامة ستكون صمام أمان إزاء محاولات الشرذمة والتقسيم، إضافة لذلك تحدث المشروع عن شروط المصالحة الوطنية في النجاح، عن استقلالية القرار العراقي، ورفض التدخل في شؤونه الداخلية، عن وحدة العراق أرضا وشعبا، وهي تعبر عن نهج يحصن العراق من الانزلاق في برامج ومشاريع مشبوهة.

والمشروع من ذلك كما ذكر ابتداء ما هو الا مسودة مقترحة من المتوقع ان تخضع للتعديل والتصويب وتبقى الصيغة النهائية معلقة بانتظار ملاحظات من يعنيهم امر العراق من عراقيين وغيرهم، وهي خاضعة متى ما سمحت الظروف للاستفتاء الشعبي وهذا ما نصت عليه الآليات المقترحة في نهاية المشروع.

* نائب رئيس

جمهورية العراق ـ

خاص بـ«الشرق الأوسط»