متى تنتهي حرب داحس والغبراء؟

TT

«كان على محمود عباس أن يبقى في البيت بدل ان يسافر إلى واشنطن. حتى لقاءاته مع ايهود اولمرت باتت عاراً وإهانة لشعبه... فلم يعد مقبولاً احتمال مشهد الزعيم الفلسطيني اثناء زياراته للقدس، وهو يقبل وجنتي زوجة رئيس الوزراء الذي يضرب حصاراً على مليون ونصف مليون فلسطيني، حاكماً عليهم بالجوع والظلمة». هذا الكلام ليس لمتطرف من «حماس» أو ناشط من «الجهاد الإسلامي»، انه للصحافي الإسرائيلي اليساري المعروف، جيدون ليفي، نشره مؤخراً في «هآرتس»، معتبراً ان على «عباس رفض أي مشاركة في مؤتمر سلام أو أي لقاء آخر، قبل رفع الحصار عن شعبه في غزة». ويذهب الكاتب بعيداً حين يقول:«لا بل لو كان عباس ذا قامة تاريخية، لكان رفض حضور أي مؤتمر بدون اسماعيل هنية».

لو قورنت هذه النصيحة الإسرائيلية، التي يفترض انها معادية، ببعض النصائح العربية التي تدعو للثأر حتى من هواء غزة وترابها، لتركيع «حماس»، لبدا الأمر عجيباً، ومربكاً.

أكثر من ذلك، ان احداً من العرب، لم تثر غيرته منذ ايام، حين أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي ايهود باراك، ان حرباً لا هوادة فيها على غزة باتت حتمية لإسكات صواريخ حماس المزمجرة. والذين اعترضوا على هذا التهديد هم إسرائيليون، حذروا من دماء كثيرة، عربية وإسرائيلية، ستسيل بسبب الكثافة السكانية من ناحية، واضطرار الجنود لاختراق الغابات البشرية الفلسطينية من ناحية أخرى.

والعداوة الثأرية البغيضة التي تنهش العقول وتعمي القلوب، لم تعد حكراً على الفلسطينيين وحدهم، ففي لبنان، يكاد بعض الزعماء اللبنانيين، يفضلون دمار بلادهم، عملاً بمقولة شمشون «علي وعلى أعدائي» على ان يجنحوا لأي تفاهم، بحدوده الدنيا، مع سوريا. وثمة من شمت بحصول الغارة الإسرائيلية على الشقيقة، متمنياً لو تكون غارات لا تبقي ولا تذر. «فثقافة الثأر العشائري باتت تلاحقنا كلعنة الفراعنة» كما كتب الأخضر الإبراهيمي. والإخوة الأعداء لم يعد يعنيهم سوى إلحاق واحدهم أكبر ضرر ممكن بالأخر، ولو كانت النتيجة انهيار المعبد على الجميع.

وحتى قرار الكونغرس الخطير والمريع حول تقسيم العراق، لم يزد العراقيين غير قسمة وتشرذم وجدال عقيم، يريد ان يثبت كل من خلاله أنه أكثر وطنية وتمسكاً بالوحدة من غيره، ولو أدى ذلك إلى انتحار جماعي.

ويكاد المرء يكفر بوجود جوامع مشتركة للوحدة العربية، لولا هذه الشيم المعيبة التي يتساوى فيها المتفرقون، من المحيط إلى الخليج، وتوحد بينهم، في بذل كل غال ورخيص بهدف الثأر والتشفي.

وكان حسّ الانتقام من صدام حسين، جعل الأصوات تتعالى وتزمجر هائجة، مطالبة بهجوم أميركي على العراق، يذلّ الطاغية وينحر نظامه المتمرد. وقد كان للراغبين في تصفية الديكتاتور ما أرادوا، ويكاد يباد الشعب العراقي عن بكرة ابيه، ويطير العراق كله عن الخارطة. وما زال ثمة من لم تروه دماء مئات آلاف العراقيين الذين سقطوا، ويرون ربما، في ما يمكن أن يجره التقسيم من مذابح، ما يشفي بعض غليلهم.

وكأنما كل هذا الثأر والثأر المضاد، لم يكف لتلقين المصفقين للحروب في المنطقة العربية، درساً يعيدهم إلى صوابهم. فها هم بعض العرب الناقمين على الفرس، يطالبون بإهدار دمائهم، في سبيل حرمانهم من سلطة على المنطقة حصدوها، نتيجة جدهم ومثابرتهم، ورسمهم لرؤيا، عجز العرب عن الإتيان بعشرها. ولا ندري لماذا يصر بعض العرب ـ جهراً تارة وسراً تارات أخرى ـ على تشجيع حروب تقودها أميركا، ضد كل من يتفوق حولهم، ولا يفكرون في ان يسجلوا بتفوقهم الذاتي، واتحادهم، ما يمكن ان يردع الوحوش الكاسرة.

وبصرف النظر عن قسوة ما ارتكبته «حماس» أو غيه، فإن التعامل معها بروح التشفي والبغضاء، لن يجلب للفلسطينيين مجتمعين سوى الخراب، حتى ولو كانت أميركا ومعها إسرائيل، يزينون المؤتمر الخريفي المقبل على انه أول خطوة في الطريق إلى الجنة. أما مغامرة إسرائيلية إضافية لاجتياح غزة، فلن تكون سوى جولة دموية أخرى، في صراع لا يربح فيه غير الموت منذ أكثر من ستين سنة. في ما استمرار قرع الطبول العربية المحتفية، بحرب قد تشنها أميركا على طهران، ايا كان نوعها، فهو طلب لنار الجحيم.

ومستشار الأمن الأميركي السابق، وليس نحن من يقول، انها حرب قد تجر وراءها عشرين سنة أخرى من الحروب. وزبجنيو بريزينسكي هذا، لا يعاني بالتأكيد من مرض «الهلوسة»، وإنما المرضى هم كل أولئك الذين يظنون منذ الحادي عشر من سبتمبر ان الحروب هي الطريق إلى السعادة، حين ربطوها بالديمقراطية والحرية والتنمية أيضاً، متناسين أن أوروبا الغربية توقفت عن محاربة ذاتها منذ الحرب العالمية الثانية، ولم يزدها هذا إلا تقدما وازدهارا.

ارتضت أميركا أن تصرف لغاية اليوم 610 مليارات دولار على حربيها في أفغانستان والعراق، وسيرتفع المبلغ إلى 800 مليار دولار لو احتسبنا السنة المقبلة بميزانية لا تقل عن 190 مليار دولار، وهي أرقام جنونية في حسابات الربح والخسارة، حيث انها لم تحصد سوى الفشل في منطقة، كانت سترى في أميركا أكبر مخلص في التاريخ، لو انها استثمرت هذا المبلغ في التعليم والتصنيع، بدل القصف بالقنابل والطائرات، وتنمية الجهالة والبغضاء.

لكن لأميركا حساباتها، ومن المفترض ان للعرب مصالحهم، أما هذا الذوبان في مشروع أحمق، لم يعد يجلب سوى كل سنة حرباً، فهو حقاً لكارثة يصعب حل ألغازها. وبات من حقنا ان نتساءل هل هي حرب على الإرهاب أم انها داحس والغبراء؟

[email protected]