اليمن: الأزمة سياسية لا دستورية

TT

لوّح الرئيس اليمني علي عبد الله صالح بإصلاحات دستورية تطال شكل النظام السياسي للمرور إلى ما أطلق عليه «نظاما رئاسيا» حقيقيا، بدل النظام شبه الرئاسي الحالي القائم في اليمن. ومع أن الرئيس علي عبد الله صالح لم يوضح الأسباب الفعلية لهذه التحويرات الدستورية، إلا أن التعليقات المنشورة في الصحافة اليمنية القريبة من الحكومة، اعتبرت أن الإصلاحات المقترحة ضرورية لتكريس «مسؤولية الرئيس أمام البرلمان» ولتوحيد سلطة القرار في البلاد، وتعزيز حضور الدولة الوطنية. ومع أن الخطاب الرسمي اليمني تناول الموضوع وفق صياغة قانونية دستورية محضة، إلا أن التجربة العربية تبين لنا أن النقاشات القانونية تحجب في العادة الخلفيات السياسية الفعلية للاعتبارات المعيارية الشكلية. تنجلي هذه الحقيقة راهنا في الحالة العراقية، حيث الحديث قائم حول طبيعة الدولة الفيدرالية المقترحة التي نص عليها دستور 2004: هل سيقنن الحل القانوني وضعا انقساميا على أساس طائفي وقومي (كما أوصى مؤخرا مجلس الشيوخ الأمريكي)، أم سيعود لنمط من الصيغة المركزية على خلفية توافق وطني واسع، كما تطالب بعض القوى السياسية العراقية؟

وتقدم الحالة السودانية نموذجا آخر لهذا الحوار السياسي ـ الدستوري الملتبس، في أفق كتابة دستور دائم للبلاد بعد انتهاء المرحلة الانتقالية الحالية التي بدأت مع توقيع اتفاقية سلام مع المتمردين الجنوبيين.

فهل تتوصل القوى السياسية السودانية إلى صياغة دستورية تقنن توافقا عاما على القضايا الرئيسية التي تتمحور حول مقتضيات وشروط إدارة التنوع الديني والقومي للحيلولة دون انفصال مناطق هامة وحيوية من البلاد؟

الإشكالية هنا سياسية وليست قانونية، أو دستورية، يحلها الساسة وليس رجال القانون.

ولذا فمن الخطأ تناول الأزمات السياسية العربية من منظور المقاربات الدستورية، وطبيعة النظام السياسي المتبع، وإن كان من المشروع التساؤل: هل بإمكان الضوابط والمحددات التشريعية التأثير في الطبيعة الفعلية للنظام السياسي؟

أي بعبارة أخرى: هل يمكن تفادي الأزمات السياسية أو حلها عن طريق الضوابط القانونية والدستورية، أم أن الصياغات المعيارية الشكلية هي دوما نتيجة بعدية لاحقة على التوافقات السياسية؟

لنبادر بالتنبيه إلى أن البلدان العربية أخذت في الغالب بأحدث النظم الدستورية وأكثرها ليبرالية، حتى في الدول القمعية التي تنتهك أساسات هذه النظم ومبادئها الأولية، فلم تكن هذه المحددات القانونية حاسمة في تشكل الحالة السياسية الفعلية. إلا أنه يمكن القول في المقابل أن الأنظمة الجمهورية العربية سعت إلى انتقاء الأدوات «القانونية» التي تسمح لها بتعزيز قبضتها التسلطية على المجتمع، باعتمادها في الغالب شكل النظام الرئاسي الذي أخذت به الكثير من البلدان الديمقراطية، في غياب الكوابح التي تحول في هذه البلدان دون الاستبداد والأحادية.

وقد دافع الساسة والقانونيون عن هذا النموذج باعتباره الأصلح للبلدان التي لم تتعزز فيها الصيغة المركزية للدولة، كما هو شأن البلدان العربية. إلا أن التجربة الفعلية أثبتت بوضوح أن النموذج الرئاسي تحول في السياق العربي إلى ماكينة «شرعية» لإنتاج وإعادة إنتاج الاستبداد، في غياب سلط موازية تكفل التوازن الديمقراطي المطلوب.

وبالنظر إلى موقع الرئاسة في جهاز السلطة الأحادي، فإن الحاكم «المطلق» يصبح قادرا على التحكم في المؤسسات التشريعية، وفي الهياكل البيروقراطية للدولة، حتى ولو حافظ على الصيغ القانونية الصورية التي تغدو بدون فاعلية بدون ضماناتها المؤسسية والمجتمعية المألوفة في السياقات الديمقراطية.

فما تكشف عنه النقاشات الدستورية ـ القانونية الراهنة، هو إخفاق النموذج المركزي الإطلاقي في إدارة التنوع المجتمعي ـ على الرغم من الصورة السائدة. فالأنظمة الكليانية الاستبدادية تنجح عادة في فرض حالة استقرار هشة مؤقتة، في الوقت الذي تتفاقم فيه تصدعات النسيج المجتمعي، وتتقوض ببطء أرضية المواطنة، من حيث هي ولاء للكلي الجماعي المشترك.

بيد أن البديل عن هذا النموذج المتآكل ليس الخيارات التفكيكية التي تتخذ شكل الاندماج الفيدرالي المرن.

صحيح أن الكثير من البلدان الديمقراطية العريقة اعتمدت هذا المسلك وحافظت من خلاله على الاستقرار السياسي والتماسك المجتمعي، إلا أنه كان في الغالب حصيلة مشروع اندماجي توحيدي بين كيانات مفككة، لا تفكيكا لحالات اندماجية قائمة.

فالصيغ الدستورية والضمانات القانونية لا تجدي نفعا في إنقاذ الهوية الوطنية في وضعية الفتنة الأهلية والصراعات الداخلية (كما هو الشأن في العراق اليوم)، ومن هنا فإن مشاريع التقسيم في صيغتيها الرخوة والشديدة تتماثل وتفضي لنفس النتيجة في غياب توافق سياسي عام بين القوى الوطنية، بعيدا عن التأثير الخارجي.

وبالمنطق نفسه لا يمكن للرئيس اليمني الالتفاف على الإشكالية السياسية المزمنة التي تعاني منها بلاده (أهمها ما يتعلق بتركة حرب الانفصال والصراع الصامت بين أجنحة السلطة) من خلال تعزيز المؤسسة الرئاسية وتوطيد مركزية الحكم. في الحالتين، يتعين الوعي بالجذر السياسي للأزمة القائمة، بدل تمويهها بالنقاشات الدستورية القانونية.