«آه إيران».. هل تساعد الإيرانيين على الخروج من مأزقهم؟

TT

بعد فوز الرئيس الايراني محمد خاتمي بالانتخابات الرئاسية توجه نحو تجمع لانصاره ومؤيديه لالقاء كلمة بهذه المناسبة، فاستقبله المتجمهرون لحظة وصوله بانشاد اغنية ايرانية قديمة، وغنى معهم خاتمي والدموع تنهمر على خديه.

وفي الوقت نفسه تقريبا كانت مجموعة من اليساريين الايرانيين القدماء قد تجمعت في استوكهولم بالسويد، وانخرطوا هم ايضا في غناء تلك الاغنية الشهيرة. كما علت اصوات منشدي الاغنية نفسها السبت الماضي خلال جنازة الاميرة ليلى ابنة شاه ايران الصغرى في باريس، وشاركت الامبراطورة فرح ارملة الشاه في غنائها والدموع تطفر من عينيها.

اما عنوان هذه الاغنية الشهيرة فهو «آه ايران» وقد كتبت عام 1932 في الوقت الذي كانت فيه القومية تمثل الايديولوجيا المهيمنة على النخب الايرانية. وهي اغنية صريحة في وثنيتها وتفتخر بايران كمفهوم لا كواقع موجود، اما ارض الوطن التي تصفها الاغنية بانها «مصدر كل الفنون» فهي هنا الصيغة الارفع للدين الى حد الاستبعاد الكامل لمفهوم الاله نفسه. وتدعم الاغنية مفهوم «الوطن الام» على انه القيمة الوحيدة التي تستحق الموت في سبيلها، كما تقسم العالم الى اصدقاء لايران واعداء يحملون «افكارا شريرة» تجاهها.

وشهدت هذه الاغنية اقبالا واعراضا عليها خلال الاحداث التاريخية المختلفة التي تعاقبت على ايران. ففي اوائل الاربعينات وعندما وقعت ايران تحت احتلال القوات السوفيتية والبريطانية، كان القوميون الايرانيون غالبا ما يترنمون بها في اجتماعاتهم السرية. وعادت الى الظهور رسميا على المسرح الايراني في الخمسينات بعد ان ادرجت ضمن المنهج التعليم الرسمي، وكثيرا ما انشدت في اللقاءات العامة خلال حركة تأميم النفط الايراني. وفي الستينات ازيحت هذه الاغنية جانبا لتخلي المسرح لسلسلة من الاغنيات الجديدة التي تتغنى بشخصية الشاه وافعاله. ومع نهاية السبعينات عادت لتفرض نفسها من جديد، ولكنها هذه المرة كانت صرخة حرب القوميين الايرانيين على سلطة رجال الدين المقبلة. وفي عام 1979 حظرت بأمر من آية الله الخميني الذي اعتبرها «صرخة حرب ضد الله».

وفي مطلع التسعينات انقسم الشعب الايراني الى ثلاث فئات فضفاضة لكل منها اغنيته «المقدسة» الخاصة به. اما انصار الخميني فكانت اغنيهم «الخميني القائد» وتصفه على انه «منقذ الاسلام». ولا تشتمل هذه الاغنية على كلمة ايران نفسها، ومن الواضح انها نظمت بغرض تحدي القوميين الايرانيين بصفتهم الخصم المحتمل لصيغة الخميني الدينية. وكانت الترجمة الفارسية «للنشيد الاممي» هي الاغنية المفضلة بالطبع عند اليساريين الايرانيين، وهنا يغيب الاله وايران بينما تركز الاغنية على «التضامن البروليتاري». وعزفت ثالث تلك الفئات وهي فئة انصار الملكية الايرانية ايضا عن التغني بـ«آه ايران» وفضلت عليها «عمرا مديدا يا شاهنشاهنا» وهي في الاساس قصيدة مدح في آخر ملوك ايران، وترد كلمة ايران في هذه الاغنية ولكن على انها شيء يحميه «شرف الشاه المقدس».

وتكشف سيرة اغنية «آه ايران» عن انها تذاع وتنتشر في الاوقات التي ينتاب فيها الايرانيين القلق حول انقساماتهم الداخلية ومستقبل بلادهم. ورغم ان هذه الاغنية فرحة في مظهرها الا انها اغنية حزينة في صميمها، ويهيمن عليها الخوف على مستقبل البلاد. وتبدأ موسيقى الاغنية بنغمات قوية ولكنها سرعان ما تتحول الى نغمات حزينة. اما كلماتها فتصور ايران على انها وحيدة ومهددة. وليس من ذكر فيها للمفهومين الاساسيين اللذين قام عليهما التاريخ الايراني وهما الله والملك، وهذا يؤكد على الشعور بالعزلة. ولا وجود للاله او للملك ليلقيا بسلامهما على ايران التي لا تجد مفرا من التضحية باطفالها. وتوحي الاغنية كما لو كان العالم كله يقف في وجه ايران ويضع الخطط لتدميرها. وتبشر بقيام معركة كبرى لانقاذ «ارض الكنوز الوفيرة» ولكن نتيجتها تظل مبهمة. وتنتهي الاغنية بالدعاء لايران «بالبقاء والخلود». وربما يكون وراء شيوع هذه الاغنية وشعبيتها الشديدة انها تبدو غريبة وقريبة في آن واحد. اما مرد غرابتها فموسيقاها ذات النمط الغربي، واما قربها فيعود الى اقتصار ابياتها على الكلمات الفارسية فقط. اذ تحتوي الفارسية السائدة على كلمات ذات اصول عربية تصل نسبتها الى 40 بالمئة على الاقل. غير ان هذه الاغنية لا تحتوي ولا على كلمة عربية واحدة، ولهذا فانها تخلق الجدة بالاعتماد على عدد من الكلمات الفارسية القديمة. ومن بين اسباب شهرة هذه الاغنية ايضا توظيفها عددا من المفاهيم القديمة جدا، منها الازدواجية الوجودية، ذات الجذور الممتدة في النفسية الايرانية.

ما من شك في ان اغنية «آه ايران» هي الاغنية الاكثر شعبية في ايران اليوم. ومن المؤكد انها الاغنية الوحيدة التي يحفظ مقاطعها كل الايرانيين بغض النظر عن اعمارهم او مناصبهم او معتقداتهم السياسية. وتجد في كل بيت ايراني اشرطة هذه الاغنية جنبا الى جنب مع نسخة من المصحف الشريف ونسخة من قصائد حافظ الشيرازي. فما معنى هذه الشعبية الجارفة لاغنية «آه ايران» بالنسبة للسياسية الايرانية؟ ان السبب الاساسي وراء شعبية هذه الاغنية هو تجاوزها الخلافات الحزبية. كما انها، في الوقت الذي لا تتطرق فيه الى الدين، لا تعادي اي معتقد ديني. وبينما تبتعد عن المفهوم القديم للملكية فإنها لا تعادي الملكية ايضا. وفي حين تغض الطرف عن الانقسامات الطبقية فإنها لا تروج لاي نظام غير عادل ايضا.

ولا ريب في ان معظم الرديكاليين من انصار الخمينية يكرهون هذه الاغنية لروحها العلمانية. كما يكرهها ايضا انصار الملكية المتزمتون لانها تفصل مفهوم الوطنية عن مفهوم الملكية. وكذلك هو حال المعتقدين بالستالينية القديمة لانها تروج للقومية اكثر من الصراع الطبقي. وباستثناء هذه الجيوب المتطرفة فان الاغنية تروق لكل الايرانيين لانها تتغنى بالقاسم المشترك بينهم جميعا وهو انتماؤهم لبلد ولحضارته.

غير ان شيوع «آه ايران» في ذات الوقت هو علامة يأس ايضا، فهي تشير الى افتقار القوى السياسية الاساسية، في ايران اليوم، الى اي برنامج حقيقي تطرحه لعموم الناس. فانصار الخمينية الممسكون بمقاليد السلطة لاكثر من عقدين يجدون انفسهم مرغمين على الاختباء وراء ابتسامات خاتمي ودموعه بينما تشدو حناجرهم «آه ايران،» ذلك بعد ان تحولت اغنيتهم القديمة «الخميني القائد» الى ذكرى مؤلمة للسنوات العشرين من القمع السياسي والتردي الاقتصادي. ويدرك انصار الملكية ان اغنيتهم «عمرا مديدا يا شاهنشاهنا» ستبدو ذات نبرة تكاد تكون وقحة في بلد تعصف به اشد الازمات التي مرت عليه في تاريخه الحديث. اما اليساريون فانكمشوا الى فلول قليلة العدد تحاول العثور على كوة تطل منها على الآخرين من خلال القومية الفارسية.

وربما تشهد عودة القومية الايرانية قريبا تجليات رمزية اخرى غير «آه ايران» مثل اعادة استخدام الشعار الوطني القديم الذي يحمل اسدا وشمسا الذي الغى استخدامه الخميني بعد الثورة. ويعرف عن خاتمي انه يفضل هذا الشعار لانه يرمز الى علي بن ابي طالب (المعروف بـ«اسد الله الغالب» (وميثرا) آلهة الشمس عند الايرانيين القدماء). وقد تبنت كل المجموعات السياسية الايرانية، وبينها مجاهدي خلق، شعار الاسد والشمس في محاولة لاستغلال موجة القومية المتصاعدة في ايران.

بيد ان القومية ربما كانت مفيدة ان كانت بمثابة نقطة انطلاق، وربما تبرز «آه ايران» حقيقة ان كل الايرانيين يقفون في مركب واحد ولكن انشاد الجميع اغنية واحدة بينما المركب يعاني من الغرق لا ينقذ احدا. وقد يبعث الترنم بـ«آه ايران» بمشاعر مريحة، غير ان الحاجة تظل قائمة الى تحليل متكامل للوضع الايراني الراهن ولبرنامج يأخذ بيد الايرانيين بعيدا عن الحائط المسدود الذي انتهوا اليه وعلقوا وراءه طيلة العقدين الماضيين.