أعلم ...يُعلِم ..إعلاماً

TT

اول ما مر في بالي، قبل بضعة ايام، بعدما تابعت البث التلفزيوني لافتتاح مؤتمر وزراء الاعلام العرب الذي استضافته العاصمة اللبنانية بيروت، دعوة اطلقها احد الزملاء لـ«إلغاء وزارات الاعلام في العالم العربي» كمقدمة ضرورية لتحسين مستوى الاعلام العربي. ثم.. كلمات اخرى لا تخلو من خبث دأب زميل آخر على قولها وما زالت ترنّ في اذني منذ نحو 20 سنة هي «الحمد لله ان الاعلام العالمي المتهم بتشويه صورة العرب في الخارج لا ينقل الصورة الحقيقية... لأن الحقيقة اسوأ بكثير مما هو منقول».

اعترف اولاً انني تابعت بقدر المستطاع مجريات جلسة الافتتاح واخذت فكرة عن الجو العام من خلال الخطب الافتتاحية القليلة التي القيت فيها. ثم عوّضت، والحمد لله، ما فاتني بالاطلاع على الخلاصة التي انتهى اليها اصحاب المعالي الوزراء ومن ناب عنهم.

والفكرة الاولى التي خرجت بها ان هناك، على الاقل، ناحية ايجابية واحدة من كل ذلك «المهرجان» الخطابي... تتمثل في إدراك السادة الوزراء، وبالتالي الحكومات التي يمثلون، ان مستوى إعلامنا تعيس. بل تعيس جداً. واننا رغم توسّعنا في استثمار تقنيات الاتصالات والتغني بسلاح الكلمة فإننا ماضون قدماً في تدمير ما هو قائم من مؤسساتها العريقة، والتسابق على فتح المشاريع الارتجالية القائمة على الغيرة والمناكفة وعرض العضلات من دون دراسات جدوى او فلسفة عمل او حرفية اداء او ولاء للمهنة والعاملين فيها.

وما لم يقله السادة الوزراء، وما لن يستطيعوا قوله، ان ازمة الإعلام العربي اسوأ وابشع بكثير مما يوهمون الناس به. وجانب من هذه الأزمة ان بعضهم مجرد إفراز لها.

ان هذا البعض ليس إلا واجهات لحالات سياسية هي في طبيعتها معادية لحرية الرأي، ونراها ترفض ـ حتى اليوم، في عصر الفضائيات والانترنت ـ الاقتناع بأن المتلقّي قادر على المقارنة والاختيار، ولن يقبل الى ما لا نهاية البيانات الرسمية الممجوجة والتغطية المتخلفة والعبارات النفاقية والتبخيرية الجوفاء. أساس علة الاعلام في... السياسة. في فكر الانظمة السياسية التي ما زالت تعتبر مواطنها قاصراً ينبغي تلقينه وتربيته و«إرشاده». أو لم يكن اسم وزارة الاعلام في بعض الدول العربية ذات يوم «وزارة الاعلام والارشاد القومي»؟

لقد اصغيت باهتمام بقدر ما اعانني الوقت والصبر على جملة من الخطب الافتتاحية الرنّانة فتخيلت نفسي امام احدى الصفحات الاولى من «صحف السلطة» او افتتاحيات المطبوعات الأجيرة او نشرات الاخبار الرسمية في الراديو او التلفزيون. التوجه ذاته... الشعارات ذاتها... المصطلحات ذاتها. وطبعاً بين كيل المديح على برنامج «بانوراما» الذي بثه تلفزيون البي بي سي البريطاني، الى الغمز من قناة تلفزيونات «الرأي والرأي الآخر»، بدا وكأن ثمة إقراراَ ضمنياً عند الجميع بأن الإعلام الرسمي العربي ما زال، كصلة الموصول، لا محل له من الاعراب.

الخطوات المطلوبة عودة الى اعتبار اساس العلة في السياسة، فإن الخطوة الاولى نحو اي تقدم إعلامي عربي تتمثل في إدراك الطبقة السياسية ضرورة تحويل الاعلام من وسيلة تدجين وترويض الى فضاء فسيح للتواصل والتثقيف وكشف العيوب ونسف تراكمات التخلف والفساد. ذلك ان الاعلام الحر المسؤول ـ وهنا تركيز متعمد على ربط كلمتي «الحر» و«المسؤول» معاً ـ وحده قادر على إيقاظ الأمم من سباتها وإنقاذها من تخلفها وفسادها. وبالنتيجة انقاذ النظام السياسي نفسه من المزالق التي تهدّده إذا ما اصر على الاكتفاء بسماع صوته من ابواقه او من يستأجرهم من ابواق رخيصة «شقيقة».

والخطوة الثانية هي الاستثمار بالتعليم والتأهيل للخروج بجيل من الاعلاميين واداريي الاعلام الاكفاء. ففي عالم اليوم ما عاد هناك مجال للارتجالية المهنية. وما عاد جائزاً التعامل مع الاعلام، مؤسسات او إدارات، مكتوب او مرئي او مسموع، كما لو كان «تكية» او دائرة حكومية تتسع لكل من هب ودبّ... وتوهم انه اضحى طه حسين او والتر ليبمان او ايريك رولو.

الاعلام العربي، ولنعترف بهذا، متعثر تعليمياً وتأهيلياً بجانب معاناته من الكبت السياسي والارتجال الاداري. ولدينا جيوش من الاعلاميين من المحيط الى الخليج لعلها ستفلح اكثر في مجالات اخرى لكنها... الشهرة ـ لعنة الله على الشهرة! ـ التي تقنع اياً كان بإنه خلق للكتابة او التلفزيون. وعليه فمطلوب مراجعة دقيقة لبرامج معاهد الاعلام العربية. ومطلوب الحرص على شرط إجادة اللغة العربية واللغات الاجنبية الاساسية التي تشقى وتتعذب على ألسنة مئات المذيعين والمذيعات. ومطلوب مستوى محترم من الثقافة العامة يعين الكاتب والمذيع على التفاعل مع ما يقرأه ويكتبه بدل الركون الى اجتهاد المصحّحين المساكين وتأثير بدلات كريستيان ديور وبودرة ماكس فاكتور.

ونصل الى الخطوة الثالثة، وهي تتعلق بفلسفة العمل الاعلامي، وتحديداً الشق الاداري منه. فقبل المباشرة بمشروع اعلامي من المنطقي ان يكون تحديد الغاية من المشروع هو نقطة البداية، ومن ثم يصار الى إجراء دراسات جدوى حوله. وبعد تأمين هذين الأمرين يستعان بأفضل الكفاءات الادارية والتحريرية بلا محاباة، ومن ثم تتبع سياسة الثواب والعقاب للتفريق بين الغث والسمين. غير ان هذه المبادئ ـ البديهية في الغرب ـ لا تحصل، مع الاسف، في اغلبية المؤسسات الاعلامية العربية. فبدلاً من السخاء في الانفاق على المهنة واحترامها، الذي هو وجه من وجوه احترام المتلقّي، نجد السعي الدائم الى الرخيص، سواء بالنسبة لمستويات الطواقم التحريرية والاذاعية، او ما يُشرى من تحقيقات وبرامج مدبلجة سيئة الترجمة ترشق بها بيوتنا كل يوم. وبدلاً من تعزيز روح الولاء عند الصحافي الكفء عبر التشجيع المنزه عن الغرض تتنامى الشللية والمحسوبية، فتغيّب الكفاءة وتنجر الحوافز وتنعدم الغيرية وروح الجماعة. ومما يقلق اكثر ان كثيرين من حاملي لواء الاعلام العربي اليوم هم في طليعة المتآمرين عليه، والمستفيدين من تخلفه. الا انهم باقون حيث هم لأن بديلهم مرفوض، والدور الذي يؤدونه يحظى بالمباركة والتأييد... ولا حاجة لإيراد الامثلة، فهي أكثر من ان تحصى.