فول وكشري

TT

يحذر مقال في «الفايننشال تايمس» من تناول المأكولات السريعة التي تباع على العربات في شوارع القاهرة: فول وكشري وسواهما. وتقول كاتبة المقال ان البائعين يعدون بضاعتهم بطريقة عشوائية خالية من ابسط قواعد النظافة، ويضاف الى ذلك التلوث والايدي غير المغسولة وشرب المياه من كوب واحد او تناول الطعام من صحن واحد. الواقع ان حال النظافة في العالم العربي مزرية حقاً، باستثناء دول الخليج. ويعتقد البعض ان الاعتياد على قلة النظافة يولد مناعة جسمانية، كما يحدث في افريقيا حيث يحصَّن المولود ضد السم باعطائه جرعات بسيطة منه. لكنني اعتقد ان الوسخ اشد فتكاً من السم. وهو لا يقتل فوراً مثله، لكنه يؤدي الى امراض وراثية تقتل الناس جيلاً بعد جيل وتشوه خلقتهم. وقد صدر في بريطانيا مؤخراً كتاب عن تاريخ الطب يقول ان معدل الاعمار عند المسلمين في القرون الماضية كان اعلى منه عند الاوروبيين وسواهم، باعتبار النظافة في الاسلام فرضا.

لا تحتكر القاهرة، بملايينها الستة عشر، غياب البداهة الصحية، ففي بعض شوارع بيروت لا تزال ترى الخرفان المذبوحة معلقة أمام دكاكين اللحامين، تتشبع طوال النهار من المازوت المقيت والتلوث والذباب. وفي اسواق حلب تعلق اللحوم وتعرض المأكولات، ومنها «مربى الفلفل» من اطيب ما احب. وهو ألذ من «الهريسة» التونسية او من الخلائط الارمنية الحارة، لكن منذ ان رأيته معروضاً في سوق حلب للناس والذباب، قررت ان اعود الى الهريسة التونسية، لانها معلبة ولا تعرض مكشوفة للناس والذباب.

وارجو ألا يرى احد في الحملة على الوسخ والذباب واللحوم المعلقة في الشوارع، اهانة لأحد. فما زلت اذكر كيف قامت علي حملة في الزميلة «اليوم» في الثمانينات عندما كتبت انتقد كثرة الذباب أمام احد فنادق الدرجة الاولى في بلد عربي ما. ولم اسَّم الفندق ولا البلد. واعتبر عدد مختلف من الناس انني اقصد بلدانهم وفنادقهم وذبابهم. فقامت حملة عشواء على «الاصلع المتفرنس» تبنتها الزميلة «اليوم» بكل طيبة خاطر، مع ان المقال نشر في «المستقبل» الباريسية وليس على صفحاتها الغراء. ورددت يومها بالقول: «اصلع نعم، متفرنس لا». وبعد مرور عقدين ما ازال اتساءل في نفسي كيف يمكن لكائن بشري ان يعتبر نفسه مهاناً ومستفزاً، اذا انتقد كائنا آخر... الذباب، ولماذا اعتبر كل قارئ ان ذبابه بالذات هو المقصود بالاهانة وليس ذباب سواه. وقد كتبت مرة عن قانون اخذ البصمات لمنح الاقامات وذكرت انني فعلت ذلك في بلد عربي. ولم اسَّم البلد. ولم اذكر حتى الحرف الاول من اسمه، لكن شتام الكويت اعتبر المسألة اهانة شخصية فازدادت عيناه احمراراً وفرش مقالاً من فوق الى تحت يقول فيه انني عملت في الكويت. ولم يذكر ـ على عادة الشتامين ـ ان اول مقال نشر له في صحيفة كنت انا من نشره، وقد ختم مقاله بكل ظرف وخفة دم وخلق رفيع بالقول انه يرجو ـ اي الشتام ـ ألا أكون نتانياهو الكويت. وهذه مأساة الذين يكتبون ولا يقرأون. فلو كان الشتام يقرأ غير ما تفيض به نفسه واحمرار عينيه لتذكر انه ليس من صحافي عربي كتب عن الكويت بقدر ما كتبت عندما كتبت، وعندما سأكتب عن الكويت، يكون في بالي وفي خاطري دائماً، طيبوها وأخيارها.. وهم كثيرون. ومجرد شتام آخر لا يغير في كرامة الناس ذرة، فإذا لم يقتاتوا من شتائمهم فكيف يعيشون.