كم هو عدد (الشهداء)؟!

TT

يروى أن إمبراطور فرنسا (فرانسيس) الأول في الحرب التي شنها على ايطاليا عام (1525) ووقع أسيراً في مدينة (بافيا)، كان يبحث مع كبار قادته ومستشاريه في الطريق الممكن أن يسلكها الجيش للدخول إلى ايطاليا، وكان مهرج الإمبراطور حاضراً فقط لكي يسليه إذا ما تعب من الكلام.

غير أن المهرج تدخل في المناقشة فجأة من دون أن يستأذن، وقال: يا مولاي لقد اتفقتم على كيفية الدخول إلى ايطاليا، ولم تبحثوا كيفية الخروج منها.

فضربه الإمبراطور على رأسه قائلاً: لا تتدخل فيما لا يعنيك ولا تفهم فيه، وهو أكبر من عقلك المتخلف، وأخذ الجميع يضحكون منه وأسكتوه وأخرجوه.

وكان المهرج على حق، ولو أخذوا ملاحظته بالاعتبار، ربما لم تقع الهزيمة ولم يقع الإمبراطور في الأسر.

وبما أننا بصدد الكلام عن الحرب، فأكثر ما أربكني قول قرأته لقائد شاب في حرب (الفندي) في فرنسا عندما صاح بجنوده، وهو يشير لهم بالهجوم على أعدائهم قائلاً: إذا تقدمت فاتبعوني، وإذا تقهقرت فاقتلوني، وإذا مت فاثأروا لي.

الواقع أنني عندما قرأت هذا الكلام تخيلت أنني من أتباعه، فارتعدت قليلاً وقلت بيني وبين نفسي: (والله هذه هي البلشة)، وأدهى وأمر من ذلك الشاب، بعض الأمهات اللاتي لا يتورعن من جعل أبنائهن وقوداً للحروب، وكلنا يذكر عتاب والدة (عبد الله الصغير) آخر ملوك الأندلس، عندما بكى وهو خارج مهزوم من (غرناطة)، وقالت له تلك الأم (الجبارة): ابكِ مثل النساء على ملك لم تحافظ عليه مثل الرجال.

أو تلك الأم التي سمعت ابنها يعتذر عن عدم الدخول في المبارزة بسبب قصر سيفه، فقالت له: اقترب من خصمك أكثر واخط خطوة واحدة فيطول سيفك، فخجل المسكين وسمع كلام أمه، وما كاد يخطو خطوة إلى الأمام، إلا وسيف خصمه ينفذ في أحشائه ويخر صريعاً، وأخذت الأم (تزغرد) على شجاعة ابنها، وهبالتها كذلك.

أو تلك التي علمت أن ابنها هرب من ساحة القتال، فكتبت إليه تقول: إن هناك شائعة منافية للشرف تقول انك هربت، فأثبت كذبها أو مت.

مشكلة النساء حتى لو كن أمهاتٍ أنهن، من الصعب أن تجادلهن أو تقول لهن: (يا هوه)، يا ناس، (رقوا) شويّة.

على أية حال وقانا الله شر الحروب، ولا بأس من أن نذكر تقريراً نشرته منظمة الصحة العالمية جاء فيه: أن ضحايا الحروب على مر الأجيال بلغوا أكثر من (ثلاثة مليارات ونصف المليار) من البشر، وهذه الخسائر ازدادت من قرن إلى قرن، ففي القرن الثامن عشر مثلاً بلغوا خمسة ملايين ونصف المليون، وفي القرن التاسع عشر بلغوا ستة عشر مليونا، وفي القرن العشرين بلغت الخسائر في الحرب العالمية الثانية وحدها أكثر من ستين مليونا، وها هو القرن الواحد والعشرون يطل برأسه، فماذا سوف يخبئه لنا القدر.

يا هل ترى كم عدد (الشهداء) في تلك الحروب، والذين سوف يتجهون رأساً إلى الجنة، وكم هم الذين سوف يتجندلون ويذهبون حطباً إلى نار جهنم؟!

في هذه اللحظة تركت القلم جانباً وفتحت الراديو، وبالصدفة سمعت المغني يقول: يا نار شبي من ضلوعي حطبك، أغلقت الراديو وأنا أتحسس ضلوعي، واكتشفت ولله الحمد إنني لم اقتل بعد.

[email protected]