غزتكم!

TT

لكل دولة عربية غزتها. الفارق الوحيد هو أن غزة الفلسطينية هي مساحة جغرافية محددة وظاهرة للعيان، أما غزة باقي الدول العربية فهي غير محصورة ومؤطرة جغرافيا، ولكنها موجودة بنفس النسبة والكثافة والهيمنة الإسلاموية، وربما بشكل أكبر في بعض البلدان. فغزة «حماس» هي حالة رمزية لسيطرة الإسلامويين على جزء كبير لا يستهان به من الدول العربية القائمة، ولو كانت هناك دول عربية جغرافيتها أشبه بجغرافيا فلسطين، لجاء الأمر جليا وواضحا. فمثلا، مدينة حماة السورية في الثمانينات كانت مشروع (غزة) لولا حزم الأمن السوري وقتئذ.. ومحافظة أسيوط في جنوب مصر تحت سيطرة الجماعة الإسلامية في الثمانينات كانت هي (غزة) مصر بامتياز، ثم زحف المد الإسلاموي شمالا ليصبح حي إمبابة في منتصف التسعينات هو (غزة) القاهرة.. ومنطقة كيفان في العاصمة الكويتية اليوم هي مشروع لـ(غزة) الكويت.. وجبال صعدة التي تهمين عليها جماعة بدر الدين الحوثي منذ عامين هي (غزة) اليمن.. الجزائر بأكملها في التسعينات كاد الإسلامويون أن يحولوها إلى (غزة) كبرى بنفطها وثرواتها وخيراتها.. وبكل تأكيد، الجنوب اللبناني تحت سيطرة «حزب الله» هو (غزة) لبنان.. أما (غزة) قطر فهي بلا شك قناة «الجزيرة». إذن، لكل دولة غزتها.. و«كل واحد يخلي باله من غزته»!

حالة غزة وحالة الإسلام السياسي هما ظاهرتا مدن حديثة Urban Centres، لا تنتشران في القرى حيث وجود مؤسسات تقليدية قديمة متجذرة قائمة على العرف المتفق عليه والمقبول من الجميع، مثل أعراف القبيلة والقرية.. إلخ. ففي قرى صعيد مصر، إذا دخل فيروس الإسلاموية رأس أحد أبنائها خرج إلى القاهرة أو أسيوط ليمارس فعلته، فيطلق لحيته ويقصر جلبابه ويحف شاربه.. منظر غير معهود ولا مقبول في قريته التي اعتادت على علامات معينة كرمز للرجولة أو التقوى، وفي تبديل هذه العلامات خروج على العرف وهو مواز للتكفير عند الإسلامويين! لذلك عندما تظهر أعراض (غزة)، فإننا نعرف أننا أمام حالة ترهل في المدن، وأن المؤسسات المدنية الحاكمة بدأت في التحلل، وهي أحد المؤشرات على ضعف مؤسسات الدولة، أو ما يصطلح عليه في مجال العلوم السياسية بضعف في الـInstitutional Capacity. إذن، إذا رأيت حالة دينية متشددة تطفو على السطح في دولة ما، فتأكد أن هذه الدولة ضعيفة بمؤسساتها المدنية.

وحالة (غزة) بسيطرة الإسلامويين لا تظهر فجأة، إنما هي مشروع تدريجي طويل المدى يبدأ بتوزيع الأغطية والطعام على الأسر المحتاجة ويتغلغل في المناهج التدريسية ويتسرب إلى الجوامع والمساجد ويعمل على خلق ولاء مرتبط بالمصالح ومبرر بالآيديولوجيا، لينتهي قبل السيطرة على الأرض بالسيطرة على الإعلام.. فغزة فلسطين تسيطر على ثلث الأرض فقط، ولكن في الاعلام العربي نجد أن حالة (غزة) تسيطر على أكثر من الثلث بكثير.. فالإعلاميون الإسلامويون ابتداء من معد البرنامج الذي يقترح الفكرة والضيوف المشاركين مرورا برئيس تحرير القناة انتهاء بمالك القناة يسيطرون على السياسات الإعلامية، ويمارسون المنح والمنع في إعطاء المنبر الإعلامي، ويجيشون مشاعر المشاهدين كما يرغبون، غضبا وحقدا وتخوينا لخصومهم.. وتقديسا وتعظيما وتعليق أوسمة الوطنية ونياشين البطولة لمن يشاركهم آيديولوجيتهم.

غزة اليوم مشروع قابل للتصدير. وقد هالني ما سمعته من استشاريين سياسيين على مستوى عال من الخبرة والقرب من موضع القرار في دولة عربية، من أن جماعة الإخوان المسلمين استغلت قلق الحكومة في هذه الدولة التي تعاني من خلل طائفي كبير في السكان ليقترحوا عليها بأن تكون هذه الدولة معقلا للإخوان، وبذلك يستطيع الإخوان السنة خلق توازن ضد الطائفة الأخرى. راقت هذه الصفقة للبعض ممن هم في الحكم، وظنوا أنهم سيستخدمون الإخوان في مشروع الدولة المحلي، ولم يدركوا أن الإخوان يستخدمونهم في مشروعهم الإقليمي الكبير. وللأسف، فتحت تلك الدولة بنوكها ومصارفها لأموال الإخوان الهاربة من بلدان أخرى بعد التضييق عليها في بنوك الغرب، ومن هناك بدأت جماعة الإخوان تصرف على الحملات الانتخابية في أحياء القاهرة الفقيرة بأموال طائلة لم يكن لمرشح البرلمان المصري «الغلبان» أن يملكها لولا المصارف الكائنة خارج الحدود!.. يتخوف الجميع من مشروع أميركا المسمى بالشرق الأوسط الجديد، وحتى الآن لم يتنبه أحد إلى مشروع الشرق الأوسط الإخواني الكبير.

حالة (غزة) تحتاج إلى معالجة جادة على المستويين الإقليمي والمحلي. محليا تحتاج الدول العربية إلى تقوية مؤسسات الدولة كبديل لحالة الترهل التى تسمح بسيطرة الإسلامويين على المدن، وخصوصا الأركان الفقيرة منها. ثانيا أن تترك الدول العربية تلك اللعبة التي تمارس علنا من خلال استضافة دولة لإخوان دولة أخرى من أجل الابتزاز والحصول على مكاسب آنية صغيرة. ثالثا، على إيران وهي المالك للماركة المسجلة (غزة) والتي تصنع في مصانع الحرس الثوري الإيراني، أن تتوقف عن تصدير هذا النموذج، وعليها أيضا التخلي عن فكرة ملء الفراغ في داخل دول أخرى، مثل العراق، كما قال الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في يوم القدس، وقد أثار تصريحه غضب دول إقليمية مهمة. أما الدول الغربية فعليها التوقف عن ممارسة السذاجة السياسية القائلة بالحوار مع الحركات الدينية المتشددة. فموقف الغرب من مشروع (الغزات) العربية محير. هناك من هم على مبدأ ويصرون على أن الحديث يكون مع الدول لا الحركات، ولكن هناك كثيرين من السذج في الغرب من يريدون الحوار مع (غزة)، والبعض بالفعل يتحاور. فأميركا مثلا تحاور (غزة) مصر و(غزة) سورية متمثلتين في إخوان مصر وإخوان سورية. فهل تداخل شرق أوسط الأمريكان مع شرق أوسط الإخوان؟!

المفارقة المؤلمة أن حوار الغرب مع المعتدلين من الإسلاميين في العالم العربي يجعلهم عرضة للعنف ويجر عليهم غضب المتشددين الذين يستخدمون نفوذهم لتقويض شرعية هؤلاء في الداخل، وقد أدى في حالات كثيرة إلى تكفيرهم ومن ثم قتلهم. أما حوار الغرب مع المتطرفين من الإسلاميين في العالم العربي، فإنه يقوي شوكتهم ويجعلهم ندا لحكوماتهم وسيؤدي في نهاية المطاف إلى خلق دولة متشددة تنادي بقتل الغرب الكافر. إذن، المعادلة في ذهن الغرب هي: إن تحاور المعتدلين تقتلهم، وإن تحاور المتطرفين يقتلونك. (To engage moderates you kill them. And to engage radicals, they kill you.)

العلاقات الدولية تقيمها الدول حتى لو كانت ضعيفة، ولا تقيمها الحركات حتى لو كانت قادرة على ضبط الأمن في غزة. أما إذا استمر الغرب باستخدام هذه الحركات ضد الدول، فإنني أبشر الغرب بـ(غزة) في لندن و بـ(غزة) في باريس! يمكن للدول العربية والإسلامية استخدامها بالطريقة نفسها ولأغراض ليست بالضرورة طيبة النوايا.. ومرة أخرى «يبقى كل واحد يخلي باله من غزته».