مخاطر السلطة المفرطة

TT

من الطبيعي ان يظل المجتمع المصري قلقا وغير مستقر. فمن الصعب ان تجد نسقا موحدا للاخلاق، فضلا عن طرق التفكير وأنماط السلوك، واحيانا يبدو المجتمع وكأنه يسبح وسط امواج متضاربة ومتناقضة حتى يصعب التعرف على حركته الاساسية. وربما كان الشيء الثابت، أو شبه الثابت، هو السلطة المفرطة التي تنتزعها الحكومات من كل المؤسسات المدنية. ومنذ محمد علي في بداية القرن التاسع عشر حتى اليوم ومصر تعاني من «افراط» السلطة في ممارسة دورها، بما يكاد احيانا يكون حكما طاغوتيا، ونتيجة لتراكم هذا الافراط اصبح تقبّل هذا النوع من السلطة جزءا من الثقافة السائدة أو المسلمات الفكرية. وعلى الرغم من اختلاف التوجهات السياسية بهذه الدرجة أو تلك الا أن المؤسسات الدينية والثقافية كانت تجد نفسها مطالبة ـ قسرا أو اختيارا ـ بتبرير ظاهرة الافراط في السلطة، وكان من الطبيعي ان تصبح قضية الاصلاح الديني من القضايا الرئيسية. ولهذا تتابع المصلحون الكبار، خاصة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الى اليوم، وكان هذا الاصلاح يتراوح بين راديكالية تقدمية، مثل رفاعه الطهطاوي وجمال الدين الافغاني ومحمد عبده وسلالاتهم، وبين راديكالية يمينية محافظة تبدأ من الشيخ رشيد رضا ثم حسن البنا، وتصل الى الحركات الاسلامية المعاصرة بكل ما فيها من انغلاق وتعصب وعودة الى فكر عصور التدهور.

ومع مرور كل هذا الوقت ـ حوالي مائتي سنة ـ فإن الثقافة السائدة مازالت تنتمي الى عصور قديمة ووفقا لمرجعية قد تكون مغلوطة على الاغلب، اذ تحكمها حاجات سيكولوجية الى جانب الحاجات الاخرى، السياسية والاقتصادية. ففي ظل الافراط في ممارسة السلطة واتساع حجمها الى درجة المطلقات احيانا تهرب القطاعات المقهورة الى تصورات عن الدين تنقذها من التهميش والابعاد التي طردتها اليها تلك السلطة الغاشمة.

وهكذا يصبح الاصلاح الراديكالي التقدمي غير مناسب وغير مجد في علاج الاغتراب الذي يهيمن ـ كالوباء ـ على قطاعات عريضة في المجتمع، كما تصبح «العقلانية» مناقضة للمشاعر النفسية المضطربة الناتجة عن الاغتراب والابعاد. وهكذا ينفتح الطريق امام الخوارق والخرافة والاوهام ويسوء التفكير والسلوك غير العقلانيين.

والمتتبع لتاريخ الاصلاح الراديكالي التقدمي يلاحظ، ويا للتناقض، انه كان مسنودا احيانا الى قوة اجنبية قد تكون استعمارية مثل عطف لورد كروفر على محمد عبده ومساعدته ضد خصومه الاقوياء، وقد تربت قيادات وطنية، مثل سعد زغلول وقاسم امين، في حجر محمد عبده، وهذه «مفارقة» بالغة الدلالة، وقد وجد كثيرون من قيادات الاصلاح السياسي شيئا من الحماية من جانب هذا اللورد الانجليزي الذي كان يلعب في الواقع بالتوازنات السياسية اكثر من أي شيء آخر، وربما لم تخطر على باله أي رغبة في الاصلاح، وكان لطفي السيد وعلي عبد الرازق، وطه حسين، يجتمعون على التفكير الراديكالي التقدمي في ظل حماية أو على الاقل «سكوت» من جانب هذا المندوب السامي البريطاني.

ومن السهل الان ملاحظة انه كلما ازداد افراط السلطة اختفت العقلانية وانبعثت ثقافة الخرافة ومرادفاتها المختلفة. والافراط في السلطة لا يتناقض مع انشاء مؤسسات ديموقراطية، كالبرلمانات أو النقابات والاحزاب والجمعيات، اذ صار من الممكن ـ تحت هيمنة وقهر الافراط في السلطة ـ تفريغ هذه المؤسسات من محتوياتها بحيث تصبح مجرد اطار شكلي لا يقدر على القيام بوظائفه الطبيعية. وكثيرا ما تستسلم قطاعات شعبية عريضة لتلك الهيمنة وتغيب بالتالي عن الساحة السياسية. اما بقية القطاعات فقد تلعب في هذه الساحة وفقا لشروطها. وكل هذه الامور تؤدي الى التناقض بين ظاهر الاشياء وباطنها ويصبح وراء كل فعل باطن مخفي وحقيقي وعلى الناس الاجتهاد في التعرف عليه، على الاقل لتوقي الاخطار المترتبة عليه.

هذه الفوضى السياسية والاخلاقية يصعب التخلص منها الا بعد انهاء حالة «الافراط» في السلطة، ولست اعني هنا الافراط في استعمال السلطة فقط.. بل الافراط فيها، بمعنى التوسع الذي قد يصل احيانا الى ما نسميه بالمطلق.

ومنذ ايام قامت زوبعة اخرى في مصر بسبب نشر احدى الصحف وجريدة «النبأ» التي اتضح ان ترخيصها صادر بناء على «انتماء» لحزب العمل الموقوف هو وصحيفته «الشعب» دون ان يطولها قرار الايقاف، لقصة فضيحة اخلاقية لراهب مسيحي كان ينتمي الى دير المحرق ذي الشهرة التاريخية، حيث لجأت اليه العائلة المقدسة، وكان هذا الراهب يستدرج النساء ويعتدي عليهن، وهي قصة قديمة وقعت منذ خمس سنوات، حوكم فيها الراهب وعزل من سلك الرهبنة، ولكن ناشر جريدة «النبأ» عندما عثر على القصة وجدها فرصة للإثارة، خاصة وقد عثر على صور فوتوغرافية فاضحة، وهكذا بدأ ينشر الواقعة على ثلاث صفحات كاملة في جريدته. ومن الواضح ان عنصر الاثارة كان من وراء هذا النشر لترويج صحيفته، وربما كان في خلفية ذهنه شيء من التعصب شجعه على هذه المجازفة، وكل هذه امور طبيعية في مجتمع يعاني من امراض اجتماعية عديدة بسبب الافراط في السلطة، وبالفعل احس المسيحيون ان في النشر اساءة متعمدة إليهم.

ولكن بمجرد النشر بادرت السلطة الى مصادرة ما بقي من العدد المنشورة فيه هذه القصة، وهذه المصادرة «الادارية» غير قانونية بطبيعة الحال، إذ ان المحكمة هي السلطة المخولة في احكام المصادرة، إلا ان الموضوع لم يكن يحتمل التأجيل في نظر الحكم، وكانت «مخالفة» الدستور أهون كثيراً من الأضرار الناتجة عن التأخير في مصادرة العدد لتجنب المزيد من اثارة المسيحيين، وهكذا تبدو الهشاشة التي يقوم عليها التماسك الاجتماعي، بل وتربص القوى المختلفة بعضها بالبعض الآخر، وسهولة الانفجار الشعبي في هذا المجال او ذاك، وربما كان الاخطر من ذلك هو شيوع الخوف من الحرية والرغبة في تقييدها حتى من جانب العاملين في الصحافة انفسهم، بل ان احد رؤساء التحرير نادى بوضع قانون جديد يمنع تكرار حدوث مثل هذه الواقعة عن طريق نصوص تحد من حرية النشر التي اعتبرها مفرطة أو زائدة في المجتمع المصري.

وهكذا رحب جميع الاطراف، بل طالبوا بتدخل الدولة وتوسيع سلطتها بما سيتيح لها مصادرة وغلق الصحف، ومن الواضح ان المجتمع صار بالغ الحساسية في أمور النشر، وبين يوم وآخر تحدث أزمة بسبب كتاب أو مقالة في صحيفة أو في حديث هنا أو هناك. وعلى الرغم من الزوبعة التي صدمت غالبية المثقفين في العالم بشأن قضية نصر ابوزيد، استاذ الجامعة الذي حكمت احدى المحاكم بتطليقه من زوجته «لكفره» من وجهة نظرها فهاجر الى هولندا، راحت نفس العقلية تطالب بتطليق شريف حتاتة من زوجته نوال السعداوي بعد الزعم بتكفيرها، وكما لم يستمع احد الى نصر ابوزيد وهو يؤكد صحة اسلامه لم يستمعوا ايضاً الى نوال السعداوي وزوجها وهما كاتبان معروفان غزيرا الانتاج.

وبما ان السلطة الحكومية هي كل شيء في المجتمع المصري فأي فعل، وان قام به فرد من الافراد، ينسب فوراً إما الى إيعاز خفي منها أو صمت متعمد، أو تقصير من جانبها، فليس من المعقول ان تقوم طائفة ما بالثورة والتظاهر لان صحيفة من الصحف قد اساءت إليهم، ففي الظروف الطبيعية تُسأل تلك الصحيفة وذلك الشخص عن الاساءة، ويمكن ان يحاكما ـ الصحيفة والشخص ـ أمام المحاكم، وكان غريباً ان تجد الكثير من المؤسسات نفسها مسؤولة عن تقديم الاعتذار للمسيحيين ممثلين في البطرك، كما فعل وفد من مجلس نقابة الصحفيين، وكما بادر اتحاد الكتاب بنشر شجبه، وكذلك العديد من الشخصيات، وهذا يعني كثرة الشكوك بين جميع الاطراف مما يستلزم دائماً الاعراب عن النية واظهارها بين وقت وآخر، وفي مجتمع لا يعبر ظاهر الاشياء عن باطنها الحقيقي يسود الشك والقلق والتربص بالآخر.

ولأمر ما اصبحت المحكمة الدستورية العليا كياناً بارزاً في الاصلاح السياسي، وسط هذه الاجواء من الشكوك والحساسيات، إذ اصدرت مؤخراً حكماً بالغ الأهمية. ففي اطار ثقافة الافراط في السلطة كان القانون يحاسب حتى على النية، وقد اخترعت هذه الثقافة ـ منذ وقت طويل ـ نصاً في قانون العقوبات تحت اسم الاتفاق الجنائي يعاقب اي شخصين، أو اشخاص، اذا اتفقوا على فعل جنائي، غالباً ما يكون متصلا بالعمل السياسي، حتى وان لم يقع هذا الفعل. وقد حوكم سياسيون عديدون واودعوا السجن بناء على هذا النص مع انهم لم يقوموا بانقلاب أو بأي فعل مادي تضمنه هذا الاتفاق الجنائي المزعوم.

وقضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية هذا القانون، كما حكمت من قبل بعدم دستورية التشكيلات النيابية السابقة لمخالفتها الاجراءات الانتخابية للقواعد التي ينص عليها الدستور، ومعنى الحكم الأخير هو تحرير المواطن المصري من تلك الرقابة «القانونية» التي تترصد النيات وتحاسب عليها. ولقد كان هذا القانون محل نقد الكثيرين سواء من السياسيين او من رجال القانون، انما لكونه تعبيراً عن افراط السلطة في الهيمنة والرقابة على الناس ظل معمولا به منذ النظام الملكي حتى اليوم، والواقع ان الحكم بعدم دستورية هذا النص يشير، ولو ضمناً، الى شجب قانون الطوارئ، الذي يتجاوز القانون الطبيعي والقاضي الطبيعي ليعطي صلاحيات مطلقة تشمل اعتقال الاشخاص وحبسهم دون جريمة منصوص عليها في القانون ودون نص عقابي، وهذه الاجراءات التي تطبقها السلطة في ظل قانون الطوارئ أشبه بقراءات النية لانها كلها ظنية وقائمة على الاحتمالات وليست على الفعل المادي.

ولكن رغم ان هذا الحكم بالغ الأهمية وعلامة مضيئة في تاريخ القضاء المصري، إلا انه لن يحقق الاصلاح الشامل المنشود، والمحكمة الدستورية العليا، على أية حال، لا تستطيع ان تتحرك إلا في اطار صلاحيتها، وهي بالفعل قد أدت بشجاعة ونزاهة واجبها الوظيفي، وربما بما يفوق أي مؤسسة أخرى. يبقى بعد ذلك ان تتقدم المؤسسات الأخرى بنقد هذا الافراط في السلطة والكشف عن خطورته في تشويه المجتمع وتعجيزه عن الحركة، وهو أمر لن يتحقق إلا باصلاح سياسي واسع النطاق يتناول الأمور من جذورها، فالواقع ان الحوادث المتعاقبة، والتي تبين تلك الحساسيات المرضية فضلا عن انفراط النسق الاخلاقي الذي من المفروض ان يحكم العلاقات بين افراد المجتمع، والذي انتج هذه الحالة من الفوضى الفكرية والسياسية وأدى بطبيعة الحال الى تلك الاحقاد والانحرافات وشيوع النهب والفساد، كل هذه الحوادث مؤشر صارخ على ضرورة المبادرة الى الاصلاح وانهاء حالة افراط السلطة التي نخرت في العقلية المصرية وانتهت الى شيوع ثقافة بالغة التخلف في الكثير من الجوانب.