لبنان ومنظور حزب الله : تقدمية .. بمفعول رجعي!

TT

استوقفتني عبارة للصحافي الأميركي ـ اللبناني مايكل يونغ استهل بها تعليقه على كتاب «أصوات حزب الله: كلمات السيد حسن نصر الله» الذي نشر في صحيفة «التايمز» اللندنية يوم أول من أمس السبت.

إذ قال يونغ «من الغرابة أن يحظى حزب الله (اللبناني) بتبني قطاع واسع من اليسار العالمي، لكن ليس سراً السبب في رضى العلمانيين المفترض بهم دعم القيم الإنسانية ضد القمع النيو كولونيالي على حزب اوتوقراطي ديني وثيق الصلة بكل من نظام رجال الدين في إيران والنظام السلطوي في سورية ـ والكلام ما زال ليونغ ـ. فالجانبان (أي حزب الله ومن يدعمه من اليساريين) يتشاركان في عدائهما للولايات المتحدة وإسرائيل بسبب القضية الفلسطينية».

طبعاً، يونغ لم يكتشف البارود بملاحظاته هذه. لكنه اختار هذه الكلمات ليقدّم بها قراءته الناقدة، التي أنهاها بعبارة أقسى بكثير، هي أن الكتاب "يتكلّم عن عقل متفوق ومنهجي (عقل السيد حسن نصر الله) يدير اللعبة، لكنه يتكلم أيضاً عن رجل يقود رعيته إلى متاهة ليس لها منافذ».

بالأمس في ذكرى «يوم القدس»، وسط العد التنازلي لاستحقاق رئاسة الجمهورية في لبنان، وللمؤتمر الشرق أوسطي الموعود الذي يتوقع أن تشكل القضية الفلسطينية محوراً أساسياً فيه، اختار السيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، أن يعلن موقف الحزب... بصوته وصورته، وليس عبر نوابه والناطقين الآخرين باسمه.

لكن إذا كان اللبنانيون قد توقعوا من الأمين العام نقلة راديكالية باتجاه الحل، فإنهم سمعوا منه تأكيداً متجدداً لما غدا «ثوابت» الحزب. وهي ثوابت تتردد بصورة شبه يومية إما من شخصياته، أو أدواته، أو من القيادة السورية ووسائل إعلامها السورية واللبنانية، أو القيادة الإيرانية ووسائل إعلامها الإيرانية واللبنانية.

فعلى أرض الواقع، لا تباشير لتحوّل محسوس بالنسبة للاعتصام في قلب بيروت، ولا لوقف التجييش السياسي والإعلامي، ولا للتسليح والتدريب العسكري، ولا لخطط الاختراق الطائفي الممنهج.

الخيار العلني الأول كما اقترحه السيد نصر الله على الأكثرية البرلمانية والموالاة هو «التوافق».

«التوافق» هنا كلمة تعني «تقاسم» منصب رئيس الجمهورية الذي بمجرد انتخابه ستصبح الحكومة من الناحية الدستورية في وضع المستقيلة حكماً. وبذا يسقط من يد الأكثرية البرلمانية ـ الممنوعة من مزاولة حقها الانتخابي داخل البرلمان ـ، آخر أوراق السلطة.

بلغة أكثر بساطة، ستفقد الموالاة أو الأكثرية إذ ذاك غالبيتها داخل مجلس الوزراء نتيجة استقالة الحكومة، في حين تحتفظ المعارضة برئاسة مجلس النواب (المعطِّلة لجلسات البرلمان)، مضافاً إليها رئيس جمهورية مرضيّ عنه من قبل المعارضة ومن يقف خلفها من القوى الإقليمية، وجيش فعلي لـ «حزب الله» أقوى من الجيش اللبناني النظامي.

«التوافق» بالنسبة لنصر الله أيضاً، كما قال، توافق على شخص من دون الحاجة إلى التوافق على برنامج، وهذا أمر ـ لعمري ـ لا يخلو من غموض.

فالمعارضة، وعلى رأسها حزب الله، تتهم الموالاة أصلاً بأنها عميلة لواشنطن وتل أبيب، وتصوّر بعض قادتها على أنهم «حاخامات»، وتعتبر الحكومة الحالية برئاسة فؤاد السنيورة بأنها «حكومة (السفير الأميركي جيفري) فيلتمان» ... فهل يؤدي انتخاب شخص ما، كائناً من كان، إلى تصفية القلوب وزرع الثقة وكبح «العملاء» وتثبيت الاستقرار في البلاد؟

أي «سوبرمان» هذا سينجح في طمأنة النظام السوري إلى نزاهة المحكمة الدولية التي ستنظر في جريمة اغتيال رفيق الحريري وغيرها من الجرائم التي اتهم السيد حسن نصر الله بالأمس إسرائيل بارتكابها، أو في إراحة بال البيت الأبيض إلى أن سلاح حزب الله لن يستخدم إلا للدفاع عن سماء لبنان وأرضه.. نصف المحروقة؟

أي أفلاطون .. أي بسمارك .. سيسوقه قدره العاثر إلى قصر الرئاسة ـ إذا دخله حياً ـ قادر على إرضاء الشراذم الطائفية اللبنانية التي تعرّضت على امتداد ثلاثة عقود لهيمنة الميليشيات ومغامرات «العسكر» النابوليوني وسطوة الدولة الأمنية وعملية غسل الأدمغة الإلهية؟

الخيار الثاني عند السيد نصر الله هو إجراء انتخابات رئاسية، لمرة واحدة عبر اقتراع شعبي مباشر، أو استفتاء الرأي العام عبر وكالات متخصصة موثوقة (!). وهذا الطرح بالمناسبة ليس جديداً من السيد، وهو يدرك قبل غيره أنه يحمل في طياته طابع التهديد والابتزاز أكثر منه طابع المخرج الديمقراطي المنطقي.

نعم .. السيد نصر الله يفهم أكثر من أي شخص تماماً مرتكز «التعددية» الطائفية، لأن هذا المرتكز كان سلاحه المعتمد لإسقاط الحكومة الحالية. وهو بعمله مع الرئيس نبيه بري على سحب الوزراء الشيعة من الحكومة كان يهدف لإلغاء دستوريتها بحجة افتقارها لتمثيل طائفة أساسية من طوائف البلاد. وبالفعل ما أن استقال الوزراء الشيعة حتى أخذ «حزب الله» وحركة «أمل» يصفان الحكومة بأنها فاقدة للشرعية وغير دستورية وغير ميثاقية.

فيا ترى لو وقفت طائفة رئيسية في البلاد بنسبة 80% إلى 90% ضد مرشح معيّن حاز في الاقتراع على 55% من مجموع الأصوات الشعبية، كيف سيتصرّف السيد نصر الله؟

هل سيعتبر انتخابه حالة غير ميثاقية وغير دستورية .. أم أن للطائفة الشيعية الكريمة وحدها حق «الفيتو» بينما لا حق مماثلاً للطوائف الأخرى؟

جانب آخر يستحق التوقف عنده .. هو هل يريد السيد نصر الله حقاً إجراء اقتراع شعبي في الوقت الذي تحتكر فئة واحدة من اللبنانيين السلاح .. أم أنه على استعداد لنزع سلاح حزب الله قبل الشروع في التحضير للانتخابات؟

وهل يجوز إجراء انتخابات بينما لا يوجد رقابة على مصادر تمويل الأحزاب (داخلياً وخارجياً) وسبل إنفاقها؟

وهل من العدالة إجراء انتخابات شعبية عندما ينحسر بعض الشعب؟ عندما تمتد طوائف على حساب طوائف أخرى تسد أمام أبنائها سبل الرزق فيهاجرون بلا عودة؟

ونصل إلى نقطة مثيرة أخرى أثارها السيد نصر الله في خطابه عن الاغتيالات.

السيد اتهم إسرائيل بارتكابها، وبصراحة، لا يحق لأحد تبرئة إسرائيل من ارتكاب جرائم سياسية، لاسيما إذا ما اخذنا في الحساب سوابقها العديدة سواء في لبنان أو تونس أو داخل الأراضي الفلسطينية.

ولكن في المقابل، من قلة الموضوعية حصر التهم بإسرائيل، إذا كانت هناك أيضاً سوابق لجهات عربية يعرفها السيد نصر الله ونعرفها جميعاً. وأخوتنا الفلسطينيون بالخصوص أدرى من غيرهم بأن العديد من الاغتيالات التي طاولت قيادات فلسطينية في كل أنحاء العالم نفذتها أيد عربية، بل وفلسطينية مثل «أبو نضال».

ثم أن لبنان شهد منذ عام 1977 عندما تولّت أجهزة الأمن السورية الشقيقة (بداية ضمن قوات الردع العربية) مهام الأمن فيه سلسلة من الاغتيالات البشعة لشخصيات بارزة، ومع ذلك ظل معظمها من دون كشف أو عقاب. وهو ما جعل البعض يتهمون دمشق على الأقل بالتقصير والتقاعس، إن لم يكن بالتورط في هذه الاغتيالات.

أكثر من هذا، إذا كان السيد نصر الله قد قرّر أخيراً أن يحسن الظن بساسة الموالاة.. ويقرّر أنهم على مسافة عداء كافية مع إسرائيل لتبرير إقدامها على قتلهم، ألا يستغرب يا ترى لماذا تعفّ الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ـ ما غيرها ـ عن تصفية نواب ووزراء سابقين ومناضلين أشداء في المعارضة يهددونها يومياً من على المنابر .. لكنهم مع ذلك يسرحون ويمرحون في ربوع الوطن من دون خوف أو حراسة؟!

لبنان اليوم، ومعه المنطقة على مفترق طرق خطير. وهو يزداد خطورة عندما تغيب عن الأذهان عمداً أو سهواً حقائق لا مفر من مواجهتها.

إن الشعارات الديماغوجية من أدعياء العروبة والنضال لن تحرر فلسطين .. ولن تخيف إسرائيل، بل ستدفع المنطقة باتجاه الصيغ الفيدرالية كحل وحيد معقول للتعايش. وكلما سمح بعض الانتقائيين في «تقدميتهم» لأنفسهم بمواصلة تخدير الجماهير فإنهم سيعطلون قدرتها على التفكير السليم، وعلى الشك، وعلى السعي العنيد إلى الحقيقة.