العراق.. هزيمة النزاهة!

TT

كان ترك رئيس هيئة النزاهة بجلده البلاد متوقعاً! ظن ذلك كل مَنْ سمع صوته الخفيض، وشاهد إيماءاته تحاشياً من الوقوع في ما لا تحسب عقباه، في ندوة أو تصريح. وكان متوقعاً أيضاً ألاّ يعجب المؤسسات المحاطة بذوي الشبهات شخصاً مثل راضي الراضي، وهو على رأس دائرة متنفذة، قولاً وفعلاً، ومستقلة! وحسب ما أدلى به رئيس الهيئة أمام البرلمان الأمريكي، وما زالت للأخير مسؤولية عن أحوال العراق: أن رئاسة الوزراء عطلت 2759 قضيةً محققا بها من قضايا الفساد، وأن وزارة النفط مولت ميليشيات! وفي غضون ذلك أفادت الأنباء: أن نائباً من نواب البرلمان حضر اجتماعاً من اجتماعات تنظيم القاعدة، وتأتيك البقية!

وبهذا كم تبدو الصورة داكنة، عندما تمول وزارة النفط ميليشيات، وأن رئيس الحكومة يمنع البت في كذا عدد من ملفات الفساد، ونواباً ينسقون مع الإرهاب، ويفر رئيس هيئة النزاهة من البلاد! وكان لافتاً للنظر أن يقطع رئيس الوزراء برنامجه اليومي ليلعن عصيان رئيس الهيئة من على شاشات الفضائيات، ويصفه بالمارق! مع أن وزراء غادروا بلا عودة، مع ما سُجل ضدهم من كبائر، وبهدوء. أقول: لم يتصرف رئيس الوزراء ذلك التصرف إذا لم تكن عدم مطاوعة رئيس الهيئة مؤذية، وفاصلة. هيئة النزاهة، حسب ما يتمناه السيد نوري المالكي، أن تكون ملحقة برئاسة الوزراء، شأنها شأن المؤسسات الخدمية الأخرى، وهنا ينتفي دورها كمؤسسة رقابة ومحاسبة، فوق الميول والاتجاهات. وهي بطبيعة الحال محكومة بقوانين، وهيئة رقابة داخلية، أي لم يكن رئيسها، ولا فرق التحقيق فيها خارج المحاسبة والمساءلة، بمعنى لا يخشى الأبرياء من مظلومية تجاوز أو اتهام. إنما وحدهم المتورطون بخراب البلاد يقلقون من هيئة نزاهة لا تعلوها سلطة.

بدت محاصرة رئيس هيئة النزاهة جدية من قبل أصحاب ملفات الفساد، ولا بد من رئاسة هيئة أخرى تغض الطرف، أو قليلة الخبرة بمظان الأموال، ووجهات صرفها. لقد غدا تعيين غير النابهين في الوظائف المهمة، أو من المتواطئين مع السائد من الأحوال، سمة للوزارات العراقية ما بعد سقوط النظام السابق. وصحيح أن السابق كان يأخذ الانتماء لحزب البعث والإخلاص الشخصي لصدام حسين بالدرجة الأولى، لكنه في أحوال عديدة كان يفاضل بين هؤلاء، ويُنصب الأنسب من بينهم لهذه الوظيفة أو تلك.

ومما لا ريب فيه أن إبعاد العارف الداري عن إدارة المال العام ومراقبته، بمثابة الوقاية مما سيفتضح، وهذا ما فكر به علي بن الفرات (قُتل 312هـ)، وذلك عندما عزم الوزير العباس بن الحسن (ت 296هـ) على ترشيح خليفة بعد وفاة المكتفي العباسي (295هـ)، ووقع نظره على الأمير عبد الله بن المعتز (قتل 296هـ)، الشاعر والكاتب، اعترض عليه ابن الفرات وكان له ما أراد، أن اسُتخلف صبي لم يبلغ الحلم، وهو المقتدر بالله (قتل 320هـ). لا طعناً بالسيد نوري المالكي، ولا بوزير نفطه، ولا قرباً من القاضي الراضي، إلا أن حزب رئيس الوزراء كقطب من أقطاب المعارضة السابقة، عودنا على رصد خطايا السلطة بقوة، وها هو قد تولاها وذاق حلاوتها، وشعر بمرارة نقدها، عندما أخذ أمره يجري في مؤسسات الدولة وسفاراتها مجرى الحزب الواحد، والعصبة! صحيح أن المالكي بحزبه أتى عبر الانتخابات، إلا أنه من حق العراقيين سؤال ما سأله من قبل الشيخ النجفي جواد الشبيبي (ت 1944) والد الوجيهين المحمدين: رضا وباقر: «هبنا رضينا أن نكون رعيةً.. لكن لأي عواهل ورعاة»؟ لو حاول المالكي التخلص من عقدة المحازبة الضيقة، التي عصفت حتى بحزبه نفسه، حيث جعلته مشارب واتجاهات، لوجد نفسه رئيس وزراء العراق، لا رئيس وزراء جماعة، ولرأى مَنْ الذي يصلح أن يكون سفيرا بلندن مثلاً، وهي مركز العالم، من أهل الخبرة الدبلوماسية، ولعرف مَنْ يكون رئيساً لجامعة ذاعت شهرتها العلمية، ومَنْ يكون أهلاً لإدارة دفة وزارة الثقافة! ولحاول تصحيح إدارة الفضائية الرسمية ذات الأموال الطائلة والعطاء المبتسر الخالي من رحابة العراق. ولعلم أن ازاحة رئيس هيئة النزاهة بادرة باتجاه تشجيع الفساد! ومَنْ يدري فربما بحوزة الرجل ما هو أعظم وأخطر من الملفات! هذا، وكثرة الفساد والخراب تجعل العراقي مغترباً عن خيراته، وكأني به ينشد للشبيبي أيضاً: «لا دجلة أم السيول بدجلتي.. كلا، ولا هذا الفراتُ فراتي»!

[email protected]