العراق:حكاية الانشقاقات البعثية والمجموعات «السورية»!

TT

جديد مستجدات الوضع العراقي هو أن حزب البعث الذي بقي حاكماً في العراق من يوليو (تموز) عام 1968 وحتى التاسع من إبريل (نيسان) عام 2003، والذي هناك الآن محاولات دؤوبة وتوجهات جدية للتراجع عن القرار المتسرع الذي قضى في لحظة نشوة الانتصار بعد إسقاط النظام السابق الذي هو نظامه بـ«اجتثاثه»، قد انقسم على نفسه وأصبح هناك حزبان الأول بقيادة وزعامة عزة إبراهيم الدوري المختفي منذ أكثر من أربعة أعوام، والثاني بقيادة يونس الأحمد المقيم في سوريا والذي يبدو أنه أصبح تابعاً للقيادة البعثية السورية.

وأيضاً وبالإضافة لهذين «البعثين» العراقيين فإن هناك «بعثاً» عراقياً ثالثاً يقال إنه قيد الإنشاء، وأن الذين يقومون بإنشائه هم مجموعة من كبار ضباط الجيش العراقي الذين وجدوا أنهم لا يستطيعون الاستمرار بالسير على الطريق الذي يسير عليه عزة الدوري ومنْ معه، حيث انغمس هؤلاء في التصفيات الطائفية والمذهبية المتبادلة بين السنة والشيعة وحيث أصبحوا جزءاً من تنظيم القاعدة، والذين هُمْ غير راضين أساساً عن يونس الأحمد الذي تتهم مجموعته بالتبعية للمخابرات السورية.

إن هذا هو أحد جوانب الخلاف الذي انتهى إلى الافتراق بين هذه المجموعة، التي يقال إنها ستعمل تحت اسم «حزب البعث ـ القيادة العامة»، والمجموعتين الأُخريين الآنفتي الذكر اللتين تُّتهمان بالاستيلاء على «الأموال الطائلة» التي حرص صدام حسين قبل سقوط نظامه على توزيعها بين بعض قيادات حزبه العليا ليستعينوا بها في إطلاق مقاومة مسلحة ضد النظام الجديد ورموزه وأركانه وضد القوات الأميركية المحتلة والسعي لاستعادة السلطة السابقة؛ إن بشكلها السابق وإن بصيغة جديدة تتلاءم مع معطيات المرحلة الجديدة.

وكان قد ظهر بعد سقوط النظام السابق مباشرة في التاسع من إبريل (نيسان) عام 2003 اسم جديد رديف لاسم حزب البعث ما لبث أن اختفى هو «حزب العودة»، ولقد تم اختيار هذا الاسم من قبل عدد من قدامى البعثيين المخضرمين تيمناً بعودة هذا الحزب إلى السلطة في يوليو (تموز) عام 1968، بعد أن كان فقدها بعد نحو ستة شهور من الوصول إليها بانقلاب قاده عبد السلام عارف في أكتوبر (تشرين الأول) 1963 الذي كان شارك في الانقلاب الذي سبقه وهو انقلاب فبراير ( شباط ) من عام 1963 نفسه وكان شارك قبل ذلك في انقلاب عام 1958 الذي أطاح بالنظام الملكي العراقي وأرتكب منفذوه مجزرة دموية طالت كل رموز وأفراد العائلة العراقية المالكة باستثناء الشريف علي بن الحسين الذي كان طفلا صغيرا في ذلك الحين والذي عاد مع من عاد إلى بغداد بعد الغزو الأميركي وسقوط نظام صدام حسين.

وهنا فلعل ما هو غير معروف هو أن بعض البعثيين على مستوى القيادات وعلى مستوى «الكوادر» العليا، الذين كانت قد شملتهم حملات «التهميش» وعمليات الإقصاء التي قام بها صدام حسين، بعد احتكار السلطة نهائياً في عام 1979 وقبل ذلك عندما كان يحتل موقع الرجل الثاني في السلطتين البعثية والرسمية، كانوا قد بدأوا يفكرون في اختيار اسم جديد لحزب البعث، الذي بقوا يعتبرونه حزبهم رغم أنهم أُقصوا منه أو وُضعوا على هامشه، لينخرطوا في الحياة السياسية من خلاله.

لكن هؤلاء البعثيين، الذين كان حزب البعث في عهد النظام السابق قد لفظهم أو قلَّص مساحات أدوارهم، لم يستطيعوا تنفيذ ما فكروا فيه والسبب يعود أولا إلى أن النظام الجديد الذي جاء به الأميركيون كان ولا يزال نظاماً طائفياً ومذهبياً رغم رفعه لرايات العلمانية والليبرالية والديموقراطية، وثانياً لأن «رفاقهم»، الذين بعد سقوط نظام صدام حسين تحولوا إلى ميليشيات سرية مسلحة، قد هددوهم بأنهم سيتحولون إلى أهداف مشروعة مثلهم مثل الأميركيين ومثلهم مثل رموز النظام الجديد إن هم حاولوا العمل بصيغة جديدة على حساب الصيغة البعثية القديمة.

وهنا ولمزيد مــن الإيضاح فإنه لا بد من الإشارة إلى أن أخطر انشقاق ضرب كيان «البعث» التاريخي، الذي تأسس في عام 1947 والذي أصبح اسمه حزب البعث العربي الاشتراكي بعد أن كان حزب البعث العربي فقط بعد اندماجه بحزب أكرم الحوراني في عام 1954، كان في الثالث والعشرين من فبراير (شباط) عام 1966، حيث أصبح هناك بعث سوري، ما لبث أن انشق هو بدوره على نفسه بعد «الحركة التصحيحية» التي قادها الرئيس حافظ الأسد في عام 1970، وبعث عراقي هو الذي عاد إلى الحكم في العراق في عام 1968 والذي تعرض لتصفيات داخلية متلاحقة، أهمها تصفيات عام 1979 التي وضعت السلطات كلها في يد صدام حسين، والتي أكلت خيرة قدامى البعثيين وقضت على أهم رموزهم ومناضليهم.

لقد كان هناك تنظيمان بعثيان عملا بسرية شديدة، حتى في ذروة حكم صدام حسين وتسلطه، الأول هو تنظيم البعث الذي انتقل باقي ما تبقى من قيادته بعد حركة الرئيس حافظ الأسد «التصحيحية» عام 1970 إلى بيروت أولا ثم إلى الجزائر والذي أُطلق عليه اسم «جماعة صلاح جديد ـ نور الدين الأتاسي» والثاني هو تنظيم البعث السوري الذي بقي تابعاً لدمشق بعد هذه الحركة التصحيحية، لكن كلا التنظيمين بقيا يتعرضان لحملات بطش متلاحقة، وذلك إلى أن أصبحا مجرد أفراد.

وهكذا فإن هناك الآن خمسة تنظيمات بعثية في العراق وفي سوريا وفي بعض الساحات الأخرى والدول العربية هي: بعث عزة الدوري ومن معه وبعث يونس الأحمد ومن معه والبعث السوري الحاكم في سوريا وبعث (صلاح جديد ـ نور الدين الأتاسي) الذي اتخذ في فترة من فترات سبعينات القرن الماضي اسم : «حزب البعث العربي الاشتراكي الديموقراطي».. وأخيراً البعث الذي يقال إن كبار ضباط الجيش العراقي يقومون بتشكيله الآن والذي يقال إنه اتخذ اسم: «حزب البعث ـ القيادة العامة».

إن هذه هي وضعية حزب البعث الآن، إن في العراق وإن في سوريا أو في دول عربية أخرى في مقدمتها المملكة الأردنية الهاشمية التي يسمح نظامها الديموقراطي بحرية الأحزاب السياسية، فإنه لا بد من التأكيد مرة أخرى لو أن المحتلين الأميركيين لم يقعوا في الأخطاء الفادحة التي وقعوا فيها ولو أن النظام العراقي البديل الجديد لم يأت بعقلية ثأرية لا تعرف التسامح ولو أنه أي هذا النظام لم يقع في «المطب» الطائفي والمذهبي الذي وقع فيه فلما كانت الأوضاع العراقية على ما هي عليه الآن، فلما انساقت غالبية البعثيين، «المدنيين والعسكريين» وراء رموز نظام أذاق العراقيين الأمرين وأوصل بلدهم إلى هذه الحالة التي وصل إليها.

لقد تعرض البعثيون على مستوى القيادة وحتى على مستوى «الكادرات» العليا والأعضاء العاديين في عهد نظام صدام حسين إلى أكثر مما تعرضت له القوى والتنظيمات الأخرى على مستوى القيادات بكثير، وهذا كان يجب أن يدركه المحتلون ويتصرفون على أساسه، وكان يجب أن يدركه قادة ورموز النظام الجديد، الذين ينقصهم إدراك إياد علاوي وحكمته وحنكته وليبراليته، ولذلك فإنهم وقعوا في المستنقع الطائفي والمذهبي فكانت النتائج هي هذه النتائج المؤلمة.. وللأسف!