«التوافق».. بديل الاستنساخ

TT

فيما تسرح اسرائيل وتمرح وتوغل ـ حسب تأكيد أمين عام حزب الله اللبناني حسن نصر الله في خطابه في يوم القدس ـ قتلا واغتيالا انتقائيا للسياسيين اللبنانيين المناوئين لسورية فقط..

وفيما تزداد لهجة أقطاب الأكثرية البرلمانية في لبنان تشددا حيال حقهم، كأكثرية نيابية، في اختيار الرئيس الجديد للجمهورية اللبنانية من دون تدخل «خارجي»، وتحديدا «سورى»..

وفيما تتجاوب الأسرة الدولية مع رغبة الأكثرية البرلمانية في انتخاب رئيس لبناني الهوى قبل الهوية..

وفيما يصل هذا التجاوب الى حد تحذير واشنطن النظام السوري من أن أي تدخل في لبنان قد يستتبع «عواقب»... تزداد «قلعة الممانعة» العربية انعزالا عن عالمها العربي أولا، والخارجي ثانيا، ويزداد إصرار «حلفائها» في لبنان على انتخاب رئيس «توافقي» للجمهورية.

على ضوء هذه الخلفية، لماذا تنفر الأكثرية البرلمانية في لبنان من مطلب «الحلفاء» لرئيس توافقي، فيما السؤال لم يعد، عشية الموعد الأولي للاستحقاق الرئاسي، أي رئيس «توافقي» يمكن اختياره للبنان، بل أي رئيس «سوري» يستطيع الوصول الى سدة الرئاسة في ظل المعطيات المحلية والإقليمية الراهنة؟

عمليا، مطالبة المعارضة برئيس «توافقي» لا تعكس شوقها الى التوافق مع الأكثرية البرلمانية بقدر ما تكشف عجزها عن إعادة استنساخ إميل لحود جديد لرئاسة لبنان... فالمفروض «بالتوافق» أن يضمن لها، وللأوصياء عليها، حصة ما في الرئيس الجديد.

لم يعد خافيا أن «تحالف» فئة معينة من اللبنانيين مع سورية أصبح سيفا ذا حدين، ففيما يعزز التحالف الوضع المالي والعسكري لهذه الفئة ـ وبالتالي قدرتها على التهويل ـ يحولها في الوقت نفسه الى خصم سياسي مباشر للغرب ـ كل الغرب، بشقيه الأوروبي والأميركي.

وهذا الغرب الذي لم يقبل بامتلاك إيران تقنية إنتاج سلاح نووي، لن يقبل، استطرادا، بهيمنة المحور السوري ـ الإيراني على المنطقة... فكم بالحري على «الديمقراطية الفتية» في لبنان؟

لذلك قد تكون لدمشق ولطهران المصلحة الأولى في تمرير الانتخابات اللبنانية بهدوء، وبلا شروط مسبقة: أولا كي لا تتحملا مسؤولية زعزعة وضع متفجر أصلا في لبنان، وثانيا كي تكسب سورية، عشية مؤتمر السلام الموعود لهذا الخريف، تعاطفا غربيا أفضل مع مطالبتها بوضع قضية الجولان المحتل على جدول أعماله.

وحتى إذا سلمنا جدلا بأن الغرب، مدعوما بقرارات مجلس الأمن ونفوذه الذاتي، لن يتمكن من «معادلة» الضغوط السورية ـ الإيرانية على الساحة اللبنانية أو تحييدها على الأقل، يجب ألا تغيب عن حسابات «الحلفاء» في لبنان أن أي مواجهة بين المحورين من شأنها توريط لبنان بنزاع جديد «للآخرين» على أرضه. وتجربة الحرب الأهلية الأخيرة خير دليل على أن اللبنانيين سيكونون، كالعادة، ضحايا هذا النزاع ووقوده... وآخر المستفيدين منه.

ربما يعذر النظام السوري في سعيه لوضع اليد مجددا على موقع الرئاسة اللبنانية كونه لم يتخلص بعد من ذهنية «الوصاية» التي مارسها على لبنان على مدى ثلاثة عقود تقريبا (والمفارقة الواجب تسجيلها على هذا الصعيد أن تجاوب حلفاء دمشق الأعمى مع تعليماتها ينعش هذه الذهنية).

وربما كان اهتمام دمشق في لبنان أبعد من مجرد اهتمام بالمكاسب المصلحية التي يؤمنها للنظام السوري وأقرب الى عقدة العراق حيال الكويت، أي عقدة الحنين الى الأقضية الأربعة المسلوخة، رغم أن هذا الحنين، المغلف بشعارات قومية، حسمه اتفاق الطائف في تأكيده بأن الكيان اللبناني «وطن عربي نهائي» لكل ابنائه (ما يعني أن توافق اللبنانيين الوجداني على استقلالهم يتقدم أي توافق سياسي على رئيسهم).

أما حلفاء سورية وإيران فلا عذر لهم إن أخطأوا قراءة تطلعات اللبنانيين في مرحلة «استقلالهم الثاني» وان كانوا يعترفون ضمنا بها، ففي دعوتهم الى انتخاب رئيس «توافقي» لا يكون سوريا بالكامل ولا لبنانيا بالكامل، إقرارا واضحا بأن عهد فرض الرؤساء اللبنانيين من الخارج ولّى الى غير رجعة.

من هذا المنظور يحق للأكثرية البرلمانية اعتبار طرح المعارضة لرئيس «توافقي» انتصارا مبدئيا لتيارهم الاستقلالي، قبل ان يكون محاولة لإعادة الوصاية من الشباك بعد ان خرجت من الباب.