بوتين: حكاية رئيس مسكون بالتحرّش

TT

ليس تجنياً القول إن فلاديمير بوتين مسكون بالتحرش وله اسبابه في هذا الشأن. فهو من جهة يعيش عقدة رئيس الدولة العظمى التي تسلَّم مقاليد رئاستها وهي لم تعد كذلك. وهو من جهة اخرى يعيش عقدة انه جيء به رئيساً لروسيا من دون اي عناء، فالذي حدث أن الرئيس بوريس يلتسين اختاره من بين كل الناس الذين تنطبق عليهم صفات الترؤس ونقله بلمح البصر من داخل أقبية الـ كي.جي.بي التي كان فيها من العناصر اللماحة. ومن جهة ثالثة فهو مسكون في استمرار منذ ان تولى الرئاسة بهاجس انه غير مُهاب الجانب في نظر دول الغربيْن الاميركي والاوروبي وانهم لا يعتبرونه نداً، فضلاً عن ان مساعدة هذه الدول لروسيا لا تصل الى درجة انقاذ الاقتصاد الذي يتواصل انهياره وتتواصل تبعاً لذلك هجرة رساميل روسية بمليارات الدولارات الى الدول الاوروبية.

وهو ايضاً جاء من عالم المخابرات، الأمر الذي يعني ان بضعة ألوف من المارشالات والجنرالات والضباط اصحاب الخبرة والشأن سيكونون تحت إمرة ضابط مخابرات اصبح فجأة رئيساً للبلاد ومن دون ان تُستشار مؤسستهم في الأمر، ذلك ان يلتسين وضعهم امام الأمر الواقع وبدا الرئيس الجديد بوتين كمن نزل بالمظلة.

تلك هي بعض نقاط التحدي في نفس بوتين خلال السنوات الثلاث الاولى من الترؤس الى ان قرر بينه وبين نفسه ان يعيد الى الكرملين مجد الزمن الغابر ويفرض على دول اوروبا المحاذية وبالتالي على اميركا البعيدة المهابة التي تجعل رؤساء هذه الدول يحسبون الحساب لروسيا. وكانت البداية بضع اجراءات لتخفيف نسبة التضخم ونسبة البطالة ومحاصرة ظاهرة هجرة الادمغة وبالذات اولئك الخبراء اصحاب الباع في مجال التصنيع العسكري الاستراتيجي والاستعانة بجيوب له في المؤسسة التي امضى سنوات فيها ونعني بذلك الـ كي. جي. بي وفتح قنوات اتصال مع دول متلهفة الى ان تكون ذات شأن عسكري ووجد الضالة المنشودة في ايران التي تتطلع الى ان تكون دولة نووية وصاروخية ودولة تحتاج الى اسلحة خفيفة تزود بها تنظيمات واحزاباً تدور في فلكها داخل بعض الدول العربية والاسلامية، كما تردد في هذا الشأن كلام حول صفقة طائرات مدنية روسية لايران بمئات الملايين من الدولارات وصفقة اسلحة مليارية ايضاً مع اندونيسيا ومثلها مع سورية. ومع اقراره بخطورة هذا الانفتاح على ايران التي ساعدت بالمليارات اقتصاد روسيا المترنح مقابل تلبية طموحها في ان تكون دولة نووية، إلاَّ انه مضى قُدماً وتزامنت مخاطرته هذه مع رغبة دفينة في ان يترأس ولاية جديدة يشجعه على ذلك انه في سن فتية (54 سنة) وان حلاوة العيش في رحاب الكرملين لا تعادلها حلاوة. وحيث انه رأى بأم العين ما فعله إدمان الخمرة والشراهة بسَلَفه الرئيس يلتسين فإنه انصرف عن هذه المشهيات متعمداً الظهور امام بني قومه رياضياً ممشوقاً غير بدين يمارس الرياضة والصيد في الغابات وفي مياه البحر الاسود انيقاً في ملبسه يتصرف بكل وقار في اجتماعات كبراء العالم. وكان الرئيس حسني مبارك اول الذين لاحظوا فيه شهيته الدفينة الى تجديد الولاية الرئاسية فاغتنم مناسبة زيارة سيقوم بها الى روسيا وقال في مقابلة اجرتها معه صحيفة روسية ما معناه إنه يدعو الشعب الروسي الى الإبقاء على بوتين رئيساً لأن هنالك الكثير في برنامجه لم يفعله بعد.

تبدلت الأمور بعد ذلك وذهب الرجل بعيداً في العلاقة مع النظام الإيراني والنظام السوري وبدأت المعلومات في شأن الإنجاز النووي الايراني والتسلح الصاروخي والجوي السوري تتعاظم. وهنا كان لا بد من لفت نظر على درجة من الخشونة للرئيس بوتين تمثَّل في اعلان وزير الخارجية البريطانية يوم الاثنين 16 يوليو (تموز) 2007 في كلمة امام مجلس العموم ان الحكومة التي لم يمضِ على ترؤس غوردون براون لها ايام ستطرد اربعة دبلوماسيين من السفارة الروسية رداً على رفض موسكو تسليم المشتبه فيه اندريه لوغوفوي المطلوب لاتهامه بتسميم ضابط الاستخبارات السابق الكسندر ليتفينينكو عام 2006 في لندن، كما انها ستراجع مدى تعاونها مع روسيا في عدد من الموضوعات كمثل تغيير الطريقة التي يحصل فيها المسؤولون الروس على تأشيرات دخول الى بريطانيا. وردت الخارجية الروسية معتبرة هذا الموقف «غير اخلاقي» وانها سترد بالمثل وان التصرف نوع من استغلال القضية لتبرير بريطانيا طلب روسيا مراراً تسليمها الملياردير الروسي بوريس بيريزوفسكي والزعيم الشيشاني احمد زاكاييف اللذين تطالب روسيا باعتقالهما. ثم رفعت موسكو الصوت اكثر في اليوم التالي وهددت بأنها ستطرد ثمانين دبلوماسياً بريطانياً. ولكي لا يبدو الرئيس بوتين انه يهدد ولا يفعل شيئاً فإنه ارسل يوم الاربعاء 19 يوليو مقاتلتين روسيتين كادتا تقتربان من المجال الجوي البريطاني لولا ان مقاتلتين بريطانيتين اعترضتهما. ولكي لا يضخم بوتين الامور اكثر فإنه اوصى بأن ترد الخارجية الروسية بالمثل وتكتفي بطرد اربعة دبلوماسيين بريطانيين واتهام بريطانيا بأنها «ملاذ للمجرمين الروس». وكان اتخذ قبل ذلك (السبت 14 يوليو) قراراً بتجميد مشاركة روسيا في معاهدة القوى التقليدية في اوروبا وهي التي اُبرمت يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 1990 في باريس بين حلف الاطلسي (16 دولة) وست دول من حلف وارسو ودخلت حيز التطبيق عام 1992 والهدف منها الحد من قدرات كافة الاطراف على شن هجوم مفاجئ او المبادرة بعمليات هجومية واسعة النطاق. ووسط هذا التأزم الحاد ابدى وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف فجأة يوم الجمعة 20 يوليو استعداد بلاده لتطبيع العلاقات مع بريطانيا مستنداً الى قول مفاجئ ايضاً للرئيس بوتين وهو «إن الخلاف مع بريطانيا ازمة صغيرة». لكن كيف هي صغيرة وقد حاولت مقاتلات روسية للمرة الثانية الاقتراب من الاجواء البريطانية؟

وكان لافتاً ان الكلام حول احتمال بقاء بوتين في السلطة مما يعني تجديد الرئاسة ولاية ثالثة، تزامن مع صولات التحرش بالاجواء البريطانية مع الاشارة الى ان حادثة القاذفة الروسية التي انتهكت الأجواء البريطانية يوم الاربعاء 22-8-2007 لبضع دقائق افرزت تساؤلات ومخاوف من ان تعود الحرب الباردة بعد 44 سنة من طي صفحة هذه الحرب. كذلك كان لافتاً تحرش بوتين بالاتحاد الاوروبي وترشيحه الحاكم السابق للمصرف المركزي التشيكي جوزف توسوفيكس لمنصب المدير العام لصندوق النقد الدولي في وجه مرشح الاتحاد الاوروبي وزير مالية فرنسا السابق دومينيك شتراوس. وغرابة هذا الترشيح ان الحكومة التشيكية لم تتبنَ ترشيح مواطنها فيما يطرحه بوتين برسم الترشح للإغاظة. وقبل هذا الترشح كان بوتين يعلن في افتتاح معرض «ماكس للطيران 2007» قرب موسكو «ان المهمة التي نسعى لتحقيقها هي تأكيد ريادتنا في مجال انتاج التكنولوجيا العسكرية...»، وكان قبل ذلك ايضاً سجل ابتهاجاً بعد ابلاغه نجاح المؤسسة العسكرية الروسية في اختبار اقوى قنبلة فراغية في العالم توازي في فاعليتها القنبلة النووية ويتم التوافق على تسمية هذه القنبلة التي عكس النووي لا تلوث البيئة «ابو القنابل» وذلك كرد له مضمون التحرش باميركا وقنبلتها المسماة «أم القنابل» والتي هي على حد قول الخبراء العسكريين الروس اقل قوة بأربع مرات من القنبلة الروسية الجديدة. ثم وسَّع بوتين دائرة التحرش عندما حط الرحال يوم الاثنين 10-9-2007 في ابو ظبي محاولاً ما امكنه اختراق الجدار الاميركي- البريطاني- الفرنسي الصلب ووضع القدم الروسية في مياه الخليج الدافئة معتمداً في هذا التوجه على انفتاح تجاري وسياحي وخدماتي روسي على دولة الامارات التي يزورها الوف السياح الروس سنوياً فضلاً عن ان عدد افراد الجالية الروسية في الدولة يزيد على عشرة آلاف.

يبدو أن الارض باتت ممهدة او ان ثمار شجرة الترؤس نضجت وحان قطافها، ولا بد اضافة الى هذا التحرش والظهور الشبابي لبوتين مكشوف الصدر والساعدين تدليلاً على الصحة والحيوية وقوة الشكيمة ان يبدأ العد العكسي لولاية رئاسية ثالثة بعد انتهاء الولاية الثانية في مارس (اذار) 2008 وبعدما يكون بوش الإبن الذي هو العقدة الثانية بعد العقدة الاولى طوني بلير قد انصرف، ولا يبقى في الساحة برسم المنازلة سوى النجم الرئاسي الفرنسي الجديد نيكولا ساركوزي الذي سبق ان وصف السياسة الروسية بأنها فظة، مضيفاً القول: «عندما تكون قوة كبيرة ينبغي نسيان الفظاظة». وكخطوة اولى وضع بوتين توقيعه على مرسوم لإجراء الانتخابات العامة في الثاني من ديسمبر (كانون الاول) المقبل وعزز الحضور الشخصي وسط مجتمع الجنرالات متسبباً باستقالة وزير الدفاع وتحضير رئيس جديد للحكومة آملاً على ما يجوز الافتراض ان تكون الى جانب الـ «دوما» الجديد المنتخب ومعهما الكنيسة المؤسسات التي تتوجه رئيساً لولاية ثالثة، انما هذه المرة كقيصر.. إلاَّ اذا حدثت المباغتة البوشية- الاوروبية لإيران وسورية معاً او لإحداهما وبذلك إما يعود بوتين ادراجه الى الوراء يهتم بروسيا فقط واضعاً نهاية للتحرش، وإما يخوض غمار الحرب الباردة وبذلك يكون بالتحرشات التي اشرنا اليها استدرج اميركا واوروبا الى الحرب الفاترة التي هي اقل من ساخنة واكثر من باردة، ويكون انتقم لهزيمة الجيش في افغانستان التي عايش خيباتها ورأى كضابط مخابرات كيف ان تلك الهزيمة على ايدي اميركا وبن لادنها المدلل كانت رصاصة الرحمة على الكيان العظيم... الذي تبعثرت جمهورياته كالشظايا.