أسئلة لا تسألها لكاتب: من وحي نوبل ودوغما الشيوعية

TT

يوم الخميس الماضي فازت الروائية دوريس ليسنغ بجائزة نوبل للأدب. وبعدها بلحظات، بدأ عالم الأدب في تقليد مستمر عقب إعلان الفائز بالجائزة: تقييم أعمال الفائز. وواحد من أكثر الانتقادات الموجهة لليسنغ جاء من هارلد بلوم الأستاذ بجامعة ييل.

والى ذلك فالنقد الأدبي، الذي ذكر لوكالة الاسوشيتدبرس يقول: «بالرغم من ان ليسنغ، في بداية حياتها، ففي الكتاب كانت لديها مجموعة محدودة من الصفات، وأنا أرى أعمالها في الخمس عشرة سنة الماضية صعبة القراءة». واضاف قائلا: ان الجائزة هي مجرد «لياقة سياسية كاملة». ومن اللافت للانتباه أن ليسنغ لديها بعض الأفكار القوية عن اللياقة السياسية، وهي أفكار عبرت عنها في هذه المقالة المعدلة التي نشرت في صفحة الرأي في 26 يونيو 1992.

ففي الوقت الذي شاهدنا فيه الموت الواضح للشيوعية، فإن وسائل التفكير التي ظهرت في ظل الشيوعية، أو دعمتها الشيوعية لا تزال تحكم حياتنا. وليست كلها دليلا مباشرا على تراث الشيوعية كـ«تصحيح سياسي».

النقطة الاولى: اللغة.. ليست فكرة جديدة أن الشيوعية قللت من قيمة اللغة، ومع اللغة الفكر. هناك صياغة شيوعية معروفة بعد عبارة واحدة. وعدد محدود من الناس في أوروبا هم الذين لم يسخروا في زمانهم من عبارات مثل «خطوات محددة» و«تناقضات» و«تفسير التناقضات»، وما الى ذلك.

المرة الأولى التي عرفت فيها أن هذه الشعارات المميتة للتفكير، لديها السلطة للتحليق بعيدا عن أصولها، كان في الخمسينات عندما قرأت مقالة في صحيفة «التايمز» الإنجليزية وشاهدتها مستخدمة، «المظاهرة يوم السبت الماضي هي دليل دامغ على الموقف الملموس. . .».

كلمات خاصة باليسار دخلت مجال الاستخدام العام ومعها أفكارها. وربما يطلع الشخص على مقالات بأكملها في الصحافة المحافظة والليبرالية كانت ماركسية، إلا أن الكتاب لم يعرفوا ذلك. ولكن هناك جانبا من هذا التراث يكون استخدامه أكثر صعوبة.

وحتى قبل 5 او 6 سنوات كانت «ازفستيا» و«برافدا» وآلاف من الصحف الشيوعية الأخرى تكتب بلغة تبدو مخصصة لملء فراغات بقدر الامكان بدون قول أي شيء. لأنه، بالطبع، كان من الخطر اتخاذ مواقف تحتمل الدفاع عنها. والآن أعادت كل هذه الصحف اكتشاف استخدام اللغة. إلا أن تراث الموت واللغة الفارغة هذه الأيام يمكن العثور عليه في المجال الأكاديمي أيضا، لاسيما في بعض مجالات علمي الاجتماع والنفس.

والطريف أن صديقا شابا من اليمن الشمالي ادخر كل ما يمكنه ليتمكن من الحضور لبريطانيا لدراسة هذا الفرع من علم الاجتماع، الذي يعلم كيف يمكن نشر الخبرة الغربية بين المواطنين الجهلة. وطلب رؤية المواد الدراسية وقدم عرضا على مجلد سميك مكتوب بلغة سيئة وبعبارات قبيحة تصعب متابعتها. وكانت هناك مئات من الصفحات، فيما كان من الممكن وضع الأفكار التي يحتويها في 10 صفحات.

نعم، أنا أعلم أن تعتيم الوسط الأكاديمي لم يبدأ مع الشيوعية مثلما يخبرنا سويفت، لكن لحذلقة وإطناب الشيوعية جذور في الوسط الأكاديمي الألماني. والآن أصبح هذا الأمر أشبه بالعفن الفطري الذي أصاب كل العالم.

إنه أحد متناقضات عصرنا أن تكون للأفكار قدرة على إحداث التحول في مجتمعاتنا مع إدراك كامل للكيفية التي يتصرف ويفكر وفقها الحيوان البشري، وهي غالبا ما تقدم في لغتنا غير المقروءة.

النقطة الثانية مربوطة بالأولى. تستطيع الأفكار القوية التي تؤثر على سلوكنا أن تكون مرئية فقط عبر جمل قصيرة، بل حتى بعبارة واحدة. يطرح هذا السؤال على كل الكتّاب في كل المقابلات معهم: «هل تعتقد أن على الكاتب أن...» والسؤال دائما متعلق بموقف سياسي، والافتراض الذي يحمله السؤال هو أن كل الكتاب يقومون بالشيء نفسه. فعبارات من نوع «هل على الكاتب...؟» و«وهل يجب على الكتّاب؟» لها تاريخ طويل، بحيث أن من يستخدمها تأتي على لسانه بشكل عفوي.

ومن هنا فالخليفة المرشح لتعبير مثل كلمة «الالتزام» هو «رفع الوعي». وهذه عبارة ذات حدين، إذ قد يتسلم الأفراد الذين يتم رفع وعيهم معلومات يفتقدون إليها، ولعلها تقدم لهم دعما أخلاقيا. لكن العملية هي دائما تعني أن التلميذ يحصل على البروباغاندا التي يقبل المعلم بها. ومن هنا فـ«رفع الوعي» مثل «الالتزام» ومثل «التصحيح السياسي»، أي استمرار الابتزاز القديم المتمثل بخط الحزب.

هناك طريقة من التفكير في النقد الأدبي لا ينظر إليها باعتبارها نتيجة للشيوعية، لكنها في الحقيقة هي كذلك. فلكل كاتب تجربة مر بها حينما يقال له إن رواية أو قصة قصيرة ما هي حول شيء ما. أنا كتبت قصة «الطفل الخامس» التي صنفت باعتبارها تتناول القضية الفلسطينية، والبحث الوراثي والنسوية ومعاداة السامية وغير ذلك.

قالت صحفية جاءت من فرنسا حال دخولها غرفة الجلوس في بيتي: «بالتأكيد قصة الابن الخامس هي حول الإيدز».

إنها بداية فعالة لإيقاف أي حديث. لكن الطريف في الأمر هو أنها العادة المستحكمة في الذهن عند تحليل عمل أدبي كهذا. فإذا قلت: «لو أردت أن اكتب حول الايدز أو المشكلة الفلسطينية فإنني سأكون قد كتبت منشورا دعائيا». قد تتلقون نظرة اندهاش من الكاتب، حينما تصرون على أن عمله الأدبي هو حول مشكلة «واقعية»، مفترضين أنه وريث لما سمي بالواقعية الاشتراكية. فكتابة قصة من أجل السرد وحده هو مجرد عبث إذا لم يكن رجعيا.

الطلب في أن تكون القصص حول شيء ما يعود إلى التفكير الشيوعي وهو في الأصل من التفكير الديني، مع رغبته في كتب تهدف إلى تحسين حال الفرد باعتبارها مسألة بسيطة ذهنيا تشبه الرسائل حول عينات نموذجية.

ولد تعبير التصحيح السياسي POLITICAL CORRECTNESS مع سقوط الشيوعية. أنا لا أظن أن ذلك حدث بمحض الصدفة. وأنا لا اقترح أن شعلة الشيوعية تم تسليمها إلى فارضي اللياقة السياسية. أنا اقترح أن عادات الدماغ يتم امتصاصها من دون المعرفة بذلك.

هناك شيء جذاب جدا حول إحاطة الناس بما يجب فعله: أنا أطرحها بطريقة روضة الأطفال أكثر من وضعها بلغة مثقف، لأنني أراها سلوكا في روضة. فالفنون دائما لا يمكن ان تكون فردية ولا يمكن تلافي ما تبدعه وفي أحسن الأحوال تميل إلى أن تكون غير مريحة. الأدب بشكل خاص ظل دائما عنصر إلهام للنوبات الأخلاقية، لكنه في أسوأ حالاته يكون مصدر إلهام لاضطهاد فئات اجتماعية معينة. إنه لأمر يثير قدرا من الاضطراب في نفسي حينما لا يبدو التصحيح السياسي واعيا لشيء لعيناته النموذجية وما سبقها. إنه لأمر يثير الاضطراب في نفسي أكثر حينما تكون على علم بمثل هذه الأشياء ولكنك تواجهها بشيء من عدم المبالاة.

والسؤال بعد كل هذه الفذلكة: هل للياقة السياسية جوانب إيجابية؟ نعم، إنها تجعلنا نختبر السلوكيات، وهذا شيء مفيد دائما. ولكن المشكلة تكمن في أنه، من دون حركات شعبية، يبقى ما هو هامشي ومخبول هامشيا، فذيل الكلب يبدأ بتحريك الكلب له. فمقابل كل شخص يستخدم المفهوم لاختبار قناعاتنا، هناك 20 شخصا يلعبون دور مهيجي الغوغاء، فيما تكون رغبتهم الحقيقية ممارسة السلطة على الآخرين. فكفانا إذن مهيجي الغوغاء الذين يرون أنفسهم، أو يصورونها لنا كمعادين للعنصرية أو حتى مناصرين للمرأة أو أي شيء آخر.

وصف لي صديق أستاذ حينما استمر الطلبة يغادرون الصفوف عند تناول موضوع علم الجينات ويقاطعون المحاضرين الذين لا تتوافق آراؤهم مع آيديولوجية الطلبة، فدعاهم لمناقشته ومشاهدة فيلم فيديو يتضمن الحقائق. ولم يأت سوى حوالي خمسة من الطلبة وظلوا صامتين بينما هو يحاول إقناعهم، مسلطين أعينهم إلى الأرض، بينما كان يقوم بتشغيل الفيديو، ثم نهض أحدهم وخرج. ويبدو كأنهم صدموا ليسمعوا حقائق تتعارض مع الآيديولوجية التي يؤمنون بها، مثلما هو الحال مع الناشطين الشيوعيين الشباب. وترتب على ذلك تشكيل مظاهرة احتجاج ضد الأستاذ.

كم نشاهد في بريطانيا محاصرة مديري مدارس أو أعضاء بلدية من قبل جماعات وكأنهم سحرة يتعرضون للمطاردة. وهؤلاء المتظاهرون يزعمون أن ضحاياهم عنصريون أو رجعيون. ومرارا اتضح فقدان حملات من هذا النوع للنزاهة، وللأسف.

أنا متأكدة أن الملايين من الناس بعد سحب بساط الشيوعية من تحتهم يبحثون بلهفة غير عادية عن دوغما بديلة، حتى لو كانوا لا يعرفون أنهم يقومون بهذا الشيء.

* خدمة «نيويورك تايمز»