بعد زلزال أكتوبر: انهيار شعار التضامن (2/2)

TT

كان مبدأ "التضامن" هدية قمة الخرطوم (1967) إلى الأمة العربية الجريحة في الهزيمة الحزيرانية. فلسف شعار التضامن الواقع العربي آنذاك. كان تعبيرا عن استحالة مبدأ الوحدة، وبديلا عمليا للمشروع القومي الذي أسقطته الهزيمة.

أخيراً، أدرك عبد الناصر استحالة قبول السعودية ودول الخليج المستقلة حديثاً، بوحدة عربية مفروضة عليها بالقوة وبالثورة من ثقب الباب اليمني. في المقابل، انسجم الملك فيصل بن عبد العزيز بسهولة وبسرعة مع المصالحة مع مصر. وهكذا، في ظل شعار التضامن العربي ولاءات الرفض الثلاث للهزيمة وللاعتراف باسرائيل، موّلت السعودية وشقيقاتها الخليجيات آلة الحرب التي صنعت حرب الثأر ورد الاعتبار، حرب اكتوبر 1973.

كان التضامن أيضاً مريحا للجميع. فقد حقق حدا أدنى من التنسيق السياسي بين دول عربية مختلفة سياسيا وآيديولوجياً، لكنها كانت مدركة لقيمة التضامن في الحفاظ على المصلحة العربية العليا في قضايا قومية لا يختلف عليها اثنان. وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. ثم وصل التضامن بين دول المواجهة ودول المساندة ذروته في تلك الحرب الناجحة.

عاش شعار التضامن رسميا نحو ثلاثة عقود عربية (1967/ 2000). لكنه في الواقع تعرض للتآكل بسرعة بعد زلزال اكتوبر. كانت مصر السادات أول الخارجين على التضامن السياسي عندما اختلف مع العرب حول الصلح مع اسرائيل. في براغماتيته التبسيطية العجيبة، خُيِّلَ للسادات ان الصراع مع الصهيونية سياسي، بمعنى انه يستطيع ان يتعامل مع الدولة الغريبة المستوطنة، كما يتعامل مع أي بلد عربي قرباً أو بعدا، فيما كانت الرؤية العربية لاسرائيل أكثر كثافة وفلسفة وتعقيدا من السذاجة الساداتية. فالصراع معها قومي مصيري لا نهاية له، إلا ربما بانسحابها، على الأقل، إلى حدود 1967.

ترافق انسحاب السادات من العرب بحملة إعلامية مصرية ضدهم. ظن السادات انه بات شريكا لبيغن في "مكاسب" سلام غير متكافئ. ثم كانت نهاية السادات مفجعة. راح ضحية تنظيمات الإسلام السياسي والجهادي التي "اخترعها". انه الرئيس مبارك الذي استعاد وجه مصر العربي. أدرك مبارك عبرة التاريخ: مصر تخسر نفوذها واستقرارها كلما تخلت عن الدائرة الاقليمية المحيطة بها.

بعودة مصر، انتعش التضامن العربي. حكمة مبارك وترفعه عن التدخل في الشارع الشعبي العربي زادا من ثقة العواصم العربية به، واحترامها لمصر كالشقيقة الأكبر، ولمكانتها ودورها القومي. هناك انحياز عربي لمبارك في صراعه مع معارضة إخوانية وسياسية وإعلامية شديدة الضوضاء والثرثرة إلى حد التطاول الشخصي، مستغلة ترهل طبقة الحكم السياسية.

العامل الاقتصادي يلعب دوره أيضا في تهميش شعار التضامن العربي. كان انفتاح "السداح مداح" وظهور فئات رأسمالية طفيلية ومستغلة، لا سيما في مصر وسورية بعد حرب اكتوبر، سببا في تضييق هامش الطبقة الوسطى العربية. اختفاء هذه الطبقة، أو بالأحرى تراجعها المعيشي لتشكل طبقة بروليتاريا فقيرة متذمرة، ساهم في تغييب قيمها الليبرالية المنفتحة، والغاء دورها في تثبيت الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وضَرْبِ إيمانها التاريخي بالعروبة والوحدة.

عانى شعار التضامن العربي أيضا من ترويج تنظيمات الإسلام السياسي (الاخوان وحزب التحرير والقاعدة والترابي..) لشعارات مبهمة عن خلافة إسلامية، أو وحدة دينية لأمة إسلامية مستحيلة. هذه الشعارات الخيالية أضعفت لدى الأجيال العربية الجديدة وعيها بالانتماء لهوية عربية متميزة، بحيث التَبَسَتْ عليها كثرة الشعارات الدينية المسيسة وتناقضاتها الصارخة.

البديهي ايضاً ان يصاب شعار التضامن العربي بالشحوب مع ظهور أنظمة عربية جديدة على عتبة حرب اكتوبر، انظمة بلا هوية، أو بهويات شديدة المحلية، وبشعارات مزيفة ومزورة للشعارات القومية التي أفرغت من مضمونها بعد غياب عبد الناصر. ثم غرقت هذه الأنظمة في ملاءات أضيق متخلفة، من عشيرية وعائلية وطائفية لا ترقى البتة إلى الشعور القومي، أو تؤمن بالتضامن العربي على الأقل. فشل بعث العراق وسورية في تحقيق وحدة الحزبين والبلدين (1979) أكبر دليل. أفرقة القذافي لعروبة ليبيا شاهد على تردي الشعار التضامني وعدم جديته.

لم يعد شعار التضامن العربي قادرا على استرداد وعيه مع إطلالة العرب على قرن جديد وألفية جديدة. ضعف الشعور بالانتماء حفز أنظمة بلا عقائد ومبادئ الى القفز فوق التضامن نحو التحالف مع قوى اقليمية ودولية شديدة العداء لكيان عربي أو حتى تنسيق وتضامن وتعايش عربي. بات السلام مع اسرائيل عائقا أمام التضامن، أو شرطا ضد أية وحدة أو اتحاد بين العرب على غرار الاتحاد الأوروبي! تسيبي ليفني وزيرة خارجية اولمرت تدعو العرب الى تجاوز "العائق" الفلسطيني، ومد جسور العلاقة التطبيعية مع اسرائيل. من المحزن ان بعض دول "الأطراف" العربية تجاوبت سلفا مع هذه الدعوة المسمومة، إرضاء لأميركا، أو نكاية بالسعودية العاقدة عزمها على عدم التطبيع، إلا بعد استعادة الحقوق الفلسطينية كاملة.

في ذاتيته الفردية وجنوحه الى المبالغة والمباهاة بسيادته الاستقلالية، عجز النظام العربي عن تطوير جامعة الدول العربية، لا لتكون نواة لاتحاد، وانما لتكون جامعة تضامنية ملزمة على الأقل، مؤسسة الخدمة أيضا لم تكن قادرة على فرض قراراتها على دولها وأنظمتها. أحسب ان شعار التضامن غاب عمليا بتواري محور التنسيق المصري – السعودي – السوري تدريجيا منذ عام 2000.

بحجة عدم قدرة هذا المحور على حماية النظام السوري من الضغوط الأميركية، فقد أقدم نظام الأسد الابن، بعد إجباره على الانسحاب العسكري من لبنان، الى قلب تحالف الأب التكتيكي مع إيران، إلى تحالف استراتيجي، بحيث شل كل إمكانية لتضامن أو تنسيق عربي جماعي.

من دور لاعب إقليمي بارز في عهد الأب، باتت سورية محكومة بتبعية استراتيجية لايران في عهد الابن. سورية اليوم ساحة لاستثمارات خليجية مهمة، لكن الاستثمارات الايرانية تفوق مثيلتها العربية بعشرة أمثال. هناك استثمارات ايرانية بقيمة عشرة مليارات دولار في صميم الاقتصاد السوري ومشاريع التنمية. هذا الارتباط التبعي يضع سورية في مَهَبِّ الخطر الذي يلفح ايران. في تصريحاته الأخيرة، يعترف الرئيس بشار بتزايد الخطر الاميركي/ الاسرائيلي على سورية. لكن بدلا من التماس العودة الى "التضامن" والتنسيق مع مصر والسعودية، فهو يهدد دول الخليج بالنيابة عن من؟.. عن ايران اذا ما تعرض مشروعها النووي للقصف: "منطقة الخليج ستكون أول منطقة تدفع ثمنا غاليا لهذا العمل"!

توتير العلاقة مع السعودية، وفتورها مع مصر، وتبعيتها لايران، كل ذلك يجعل من الصعب على هذين البلدين العربيين النافذين مساعدة نظام بشار على فرض قضية الجولان على مستوى القضية الفلسطينية في مؤتمر السلام الذي دعت اليه اميركا. ايران التي "أَنْطَقَتْ": لسان حماس ضد المؤتمر، لا شك انها تضغط على بشار، لكي يتجاهل مصلحة سورية في حضوره. بشار يعيب على الطبقة السياسية اللبنانية "الارتماء في حضن اميركا". لكن ألم تكن الاخطاء المخابراتية السورية الفادحة في لبنان، واغتيال الحريري، ثم اغتيال معارضي النظام السوري، سببا في دفع الطبقة السياسية الى التماس الدعم الاميركي للحيلولة دون فرض "الناخب" السوري وحلفائه رئيسا على لبنان؟

في الثلاثاء الماضي، تحدثت بالتفصيل عن انهيار الامن القومي وغياب الدفاع العسكري الجماعي بعد مرور ثلث قرن على زلزال اكتوبر. كان لا بد من استكمال البحث بالحديث في هذا الثلاثاء عن انهيار التضامن السياسي والاستراتيجي. الغرض تحديد المسؤول، وما هي العوامل السلبية المخيفة التي اوصلت العرب الى هذا الوضع الانقسامي المزري.