أكسبريسو

TT

كان البسطاء في القرى وفي حارات المدن لا يملكون اكثر من فنجان قهوة يقدمونه لضيوفهم في العصر، لأن الصباح كان للعمل.

وفي القهوة العربية يبقى في قعر الفناجين أثر للبن، يتخذ اشكالا ورسوما او شبه اشكال ورسوم. ونتج عن جلسات العصر هذه سيدات «يقرأن» الفنجان تماما كما في قصيدة نزار قباني، حاملة هذا العنوان. ولا اذكر انني اعطيت فنجاني لأحد في أي زيارة قمت بها. لكنني كنت اسمع من جميع القارئات شيئين لم يتغيرا: تتأمل القارئة مليا في بقايا البن ثم تقول لصاحب (او صاحبة) الفنجان: اليك هذه البقعة. انظر جيدا. امامك دفعة او رزقة او قبضة. وتقول ايضا: امامك طريق سفر بعد اشارتين، هل هما يومان او شهران او عامان لا ادري.

ويطرب المقروء له او المقروء لها، للاخبار السعيدة الآتية. وكان هناك قاسم مشترك بين القارئات والمقروء لهم. لا هذه تغير شيئا من «تبصيرها» ولا هؤلاء يتغير شيء من حظهم. لا رزقة ولا دفعة. ولا قبضة ولا سفر. فأحوال الناس متشابهة وحظوظهم متشابهة وامالهم غالبا متساوية، لا يغير فيها فنجان من القهوة او رطل من البن.

لكن الناس كانت تتسلى وتبدد الوقت، ووقت البسطاء طويل، خصوصا في القرى. ويشكو اهل المدن من أن الوقت «يطير». والزمن يمر «دون ان نشعر به» اما في القرى فالصباح مبكر والنهار مديد والليل تماما بعكس ليل كارم محمود الذي كان يغني «يا ليل طول على العشاق وقل للصبح ما يبانشي».

لم يبق في القرى سوى القليل من الناس. تنتعش قليلا في الصيف وفي الشتاء تلبي نداء المدن. لم يعد احد يحتمل بطء الكوكب وهو يدور بأهله. بمثل هذا الهدوء. ولم يعد الشعراء يضيعون الوقت في احصاء النجوم وانتظار ان تقع الشهب السارعة الى جانبهم في الحقول والبساتين. عليهم الآن ان يبحثوا عن ادوات اخرى وقوافٍ اخرى لا تناجي القمر ولا تلاحق نجمة الصبح.

اقوم بزيارة بعض أترابي ايام الصيف. ولا يزال الوقت المثالي بُعيدَ العصر وقبيل الغروب. أي بعد انتهاء القيلولة وقبل حلول التزامات المساء. ولاحظت ان القهوة لا تزال تتقدم مراحل الضيافة. ولا تزال صواني الفاكهة تقدم مليئة ومتنوعة وبراقة مثل الشهب التي تفلت من مسارها في الليل، عندما لا يعود هناك شيء سوى كثافة النجوم وعمق السكون. وكل شيء في أي حال من البستان القريب، او الحديقة الملحقة. لكنني لاحظت ايضا غياب قراءة الفنجان. لقد اصبحوا جميعا يضيفون الاكسبريسو الذي لا يترك اثرا في قعر.