البوصيري أصدقهم!

TT

رجل طيب مؤمن، كان عندي إحساس بأن شيئاً سوف يحدث له.. كان إذا تناول طعامه انفرد بنفسه في انتظار ذلك الشيء.. وإذا نام ذهب الى غرفة بعيدة وتمدد على الفراش وانتظر.. لم يكن ينتظر الموت، وإنما كان عنده إحساس غريب بأن زائراً سوف يدق الباب، وأن ذلك الزائر من بلاد بعيدة، وأن لديه رسالة خاصة.. ولكن من أين أتى بهذه الإحساسات؟ لا يعرف.. وانما يجب عليه أن ينتظر وأن يكون نظيفاً طاهراً.. ولم يحدث أحداً من الناس في ذلك. وكان هذا الرجل نصف مشلول.. وفي نومه رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) ولمسه بيده الكريمة، ونهض الرجل الصوفي، وهو الشيخ البوصيري، وهو شاعر مصري ظريف أيضاً.. ويقول البوصيري: إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ألقى عليه «بردة» أي ثوباً.. وجد البوصيري نفسه ينظم قصيدته الجميلة التي اسمها «البُردة» في 182 بيتاً، ولم يكملها مرة واحدة، وإنما توقف قبل نهايتها، ويقول إنه رأى الرسول مرة أخرى فأكمل له أحد أبياتها.

ولم تنتشر قصيدة في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) كما انتشرت «بردة» البوصيري هذه.. فالناس يقرأونها في كل البلدان العربية، في الصباح والمساء، ويتبركون بأبياتها وبتلاوتها، وقد طبعت هذه القصيدة في كل عواصم الشرق الأوسط، وترجمت إلى كل اللغات، وقلدها مئات الشعراء.. وأشهر الذين قلدوا البوصيري أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته المعروفة «نهج البردة»، أي على نهج البردة، والتي تغني أم كلثوم بعض أبياتها.. ولكن البوصيري كان أكثر ايماناً.. فالبوصيري في قصيدته يشكو من عذابه في حب رسول الرسول وأهل البيت، ويطلب من الناس أن يعذروه.. فيقول:

* يا لائمي في الهوى العذري معذرة

- مني إليك ولو أنصفت لم تلمِ

* وقبل البوصيري قال الشاعر ابن الفارض:

- يا لائماً لامني في حبهم سفهاً

* كف الملام فلو أحببت لم تلمِ

- وبعد البوصيري قال شوقي:

* يا لائمي في هواه والهوى قدر

- لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلمِ.

ولكن البوصيري كان أصدق وأكثر إخلاصاً وأكثر شفافية، وأكثر استغراقاً في فنه حتى رأى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فأنشدها.. لقد شفاه الإيمان، وخلده الفن!