أيام فاتت

TT

خروج العراق من الحكم العثماني ثم قيام الحكم الوطني أدخل البلاد في مرحلة الانتقال الحضاري. مات الكثير من الحرف القديمة وظهر الكثير من مظاهر الحضارة المعاصرة المتطورة. لا يستطيع المؤرخ وهو يروي تحول المجتمع دون أن تتردد عليه عبارة «لأول مرة». من ذلك نقول انه لأول مرة، شهد العراقيون قالب الثلج الذي كان يباع بقطع صغيرة الواحدة بفلس. كانوا يشترونه ويضعونه في الزير. ولكنهم سرعان ما اعتبروا ذلك تأخرا. أخذوا يستعملون صندوق الثلج الخشبي المغلف من الداخل بالصفيح.

وكان دخول الثلج نعمة للسقاة. الذين كانوا يكسبون عيشهم من بيع الماء. وهي مهنة قضت عليها إسالة الماء التي جهزتنا بالماء الصافي المعقم. ثار عليها السقاة وراحوا يبثون شتى الإشاعات عنها، ومنها أن ماء الأنابيب يضعف الجسم ويقضي على رجولة الرجال. لم يعبأ الجمهور بإشاعاتهم وأصبح الماء الصافي المعقم متوفرا في كل بيت. بيد أن الله عز وجل رؤوف بالعباد. بدلا من بيع الماء أخذوا يبيعون الثلج. ربع قالب ثلج لكل بيت. وكله بفلس.

بعد أيام قليلة أصبح ذلك من مظاهر التأخر والفقر. حلت محله الثلاجة الكهربائية التي أغنتنا عن شراء الثلج. ويقال إن أول من جاء بالثلاجة كان عبد الرزاق الدوري عام 1936. ولكن الكهرباء اللازمة للثلاجة كانت هي الأخرى بدعة جديدة. فراح صناع اللمبات، أو اللمبجية، يحذرون الناس من استعمالها. قالوا إنها تحرق البيوت، ومن يمسها يموت في الحال، وما هي إلا أيام حتى تخرب مكائن الكهرباء ويبقى الناس بدون نور. ولكن الناس لم يلتفتوا لنذر الشر. فأنارت الكهرباء سائر البيوت والطرقات وأغلق اللمبجية دكاكينهم. بدلا من فئة اللمبجية ظهرت فئة عمال الكهرباء.

إذا كانت الكهرباء قد انتشرت بسرعة، فإن تلك الشعبية لم تصاحب التلفون. اضطرت الدولة لتشجيعه بمنحه مجانا لموظفيها. وكان أول من تلقى هذه الهدية هاشم العلوي، مدير الشرطة. زودوه به على أساس أنه ضروري لمهنته. ثم راحت الشركة تعطي مكافأة 750 فلسا لكل من يأتيها بمشترك جديد. ويظهر أن ذلك ساعدها في تعميم التلفون. عندما اطل عام 1930، كان هناك في بغداد 1100 تلفون.

غير ان التطور الرهيب كان في ميدان المواصلات، حيث أخذت السيارات تحل محل العربات والحمير. والطريف أن اليهود الذين اشتهروا اعتياديا بالحصافة التجارية، فشلوا في توقعاتهم هنا. اعتقدوا أن التجار سرعان ما سيعودون للإبل في نقل بضائعهم. فراحوا يشترون الجمال على أمل عودة الطلب عليها فيبيعونها بأسعار عالية. بالطبع لم يتحقق ذلك، وبقيت الجمال عالة عليهم تقتضي إطعامها وحراستها فتحملوا خسائر كبيرة جريا وراء ذلك الوهم التجاري. فشاع المثل العراقي بين الناس: «أمل اليهود بالأباعر»، كناية عن الجري وراء أضغاث الأحلام.