الخروج من «باب الحارة»

TT

وكأني كنت أشاهد مباراة كرة قدم حماسية، وعلى النهائي، بين فريقين جماهيريين؛ هكذا كنت ارقب الانطباعات وردود الفعل في مقهى من مقاهي جدة الجديدة في شارع التحلية، وشاشة المقهى تعرض الحلقة الأخيرة من مسلسل «باب الحارة».

الشباب الذين يرتدون الـ«تي شيرت» والسراويل الفضفاضة استقبلوا نهاية المسلسل بالتصفيق الحار لحكيم الحارة أبو عصام وعقيدها أبو شهاب، في منظر قليل الحدوث بالنسبة للمشاهد السعودي.

شكل هذا المسلسل السوري، في جزئه الثاني، ظاهرة لافتة، حتى ان بعض السعوديين تداولوا تهنئة بالعيد مستوحاة من قصة المسلسل.

الأمر لم يقتصر على السعوديين، فقد أصبح المسلسل في أكثر من بلد عربي، وبالنسبة لعرب المهاجر في الخارج، وجبة أساسية وواجبا يوميا، تضبط عليه المواقيت والساعات.

ويبدو أن هذا النجاح دفع الجهة المنتجة إلى الاتجاه لإصدار جزء ثالث العام المقبل. بل حتى ان بعض رجال الدين دخلوا في المعمعة، فوجدنا الشيخ صلاح كفتارو، نجل المفتي السوري السابق احمد كفتارو، ورئيس مجمع كفتارو، يثني على المسلسل ويقرر دعوة فنانيه وفناناته على مأدبة إفطار رمضاني تكريما لهم، ونجد النائب الكويتي الإسلامي الشهير وليد الطبطبائي يثني عليه.

بدون كثرة جدال، من الواضح أن المسلسل حقق شعبية استثنائية، هذه حقيقة، ولكن لماذا ؟

قبل ذلك دعونا نستعرض بشكل موجز فكرته. القصة تدور حول حارة شامية عتيقة هي حارة الضبع، نساؤها مخفيات بالملاءات الكثيفة ورجالها يتعاملون مع المرأة بحذر رهيب، وأهل الحارة كلهم يحبون بعضهم ويهبون للنجدة بكل شهامة، والمخفر، مخفر شرطة الاحتلال الفرنسي، مثال للفساد والارتشاء، من خلال شخصية أبو جودت وتابعه نوري، لكن خلف الأغطية الكثيفة للمرأة هناك مجتمع نسائي معزول، به غنى وكثافة أحداث تدور حول حروب النساء الداخلية، وربما تتقاطع هذه الحروب أحيانا مع حروب الرجال وتؤثر وتتأثر بها، كما في مثالي سعاد خانم وفريال اللتين أثرتا على وضع سياسي في الحارة، إن صح التعبير، ناهيك من أحلام الفتيات التي لا تتجاوز الظفر بعصام أو معتز أو إبراهيم أو خاطر.

وحتى لا نختنق داخل أبواب الحارة تأخذنا الأحداث إلى الحارة المجاورة، حارة أبو النار، وحروبها مع حارة الضبع، لكن هذه الحرب تتوقف عندما تحين لحظة الجد ويقع العقيد أبو شهاب وشباب الحارة في قبضة الانجليز بعدما هبوا لمساعدة الفلسطينيين، ومعهم ثوار الغوطة السوريون الذين كانت حارة الضبع تساعدهم من خلال أبو شهاب...

المسلسل انتهى نهاية سعيدة، تماما كما يحلم المشاهد، فقد عادت الزوجة الطليقة ام عصام إلى زوجها أبو عصام، وكل فتاة تحلم بفتاها فقد تزوجته، وأبو شهاب نجا من الأسر ومعه الشباب، ومن أنقذه هو أبو عصام الذي ظلمه أكثر أهل الحارة، ورجال الحارة ومعهم حارة أبو النار.

قد تبدو القصة تقليدية، وقد تكررت بشكل مقارب في بعض الدراميات الشامية، خصوصا على يد المخرج نفسه بسام الملا، كما في مسلسل الخوالي الذي جسد فيه بسام كوسا دور الثائر نصار أبو عريبي، وهي أيضا كانت تدور في الحارة الشامية، وتعامل المرأة المطيع والتابع للرجل.

الحق إن نسبة المشاهدة العالية تشير إلى دلالات كثيرة، لكننا نقتصر على بعضها هنا، هناك شعور عميق بالانكسار والحاجة إلى رموز نصر، الأمر الذي وفره المسلسل من خلال عزة العقيد صاحب الشوارب المعقوفة، والمتحدي لسلطة الاحتلال والهازم للانجليز والفرنسيين، والحامي لحمى الحارة بكل عنفوان، كما أنها توفر شكلا رومانسيا للوحدة والاتحاد والتضحية من اجل هذه الوحدة كما في نموذج الناكر لذاته «حكيم» الحارة أبو عصام. ورغم أن مثل هذه الجرعات من الصور البطولية الخلاصية وجدت في أعمال بصرية أخرى، إلا أن ما شد أكثر في هذا المسلسل هو صورة علاقة المرأة بالرجل، فهي علاقة تبعية خالصة وانبهار دائم بـ«ابن عمها»، والرجل أيضا يوفر الحماية الكاملة للمرأة، وإذا ما قرأت بعض التعليقات للمشاهدين العرب تلحظ التوكيد على هذا المعنى وهذه الصور، فالمرأة، كما إيمان سمارة، التي تعمل بائعة ملابس في رام الله، ترى أن النساء يتابعن المسلسل للبحث عن الرجولة الحقيقية، وأبدت إعجابها بشجاعة أبطاله وحرصهم على مساعدة بعضهم البعض. أما رجاء بركات فقالت إن تصرفات الرجال في الأراضي الفلسطينية تغيّرت بعد عرض المسلسل. وكما يقول عماد القاضي، وهو عالم دين فلسطيني من رام الله، فإن الرجال شعروا بالانجذاب نحو المسلسل لأنه ذكرهم بما يفتقدونه، وهو المرأة المطيعة، مؤكداً أن العديد من الرجال طلبوا من نسائهم مشاهدة المسلسل وتقليد تصرفات نجماته. («الشرق الاوسط» 13 أكتوبر 2007). لكن هل هناك مبالغة في تصوير «شرقية» العلاقة بين المرأة والرجل؟ وهل كان الأمر كذلك بالفعل؟ وهل كانت المرأة ضميرا غائبا في الحياة العامة بشكل تام؟

إذا ما قرأنا بعض المذكرات التي تناولت هذه الحقبة، مثل مذكرات الشيخ علي الطنطاوي، فإننا نجد هذه الإشارة إلى ملابس النساء الشاميات وكذلك وضعهن، وهي اشارة ووصف ليس بعيدا عما عرضه المسلسل، ولكن بشكل اقل حدة، لأن هذه الحدة الانفصالية التي قدم بها «باب الحارة» المرأة الدمشقية ربما لم تكن صحيحة بهذا الإطلاق، حتى ان عباس نوري، الممثل السوري الذي ادى دور حكيم الحارة أبو عصام، قال في حوار له نشر في هذه الجريدة يوم 5 أكتوبر الحالي إن المسلسل اغفل دور المرأة المثقفة والمناضلة في تلك الحقبة من تاريخ سوريا. واضاف: «كان هناك حضور للمرأة على المستويين النضالي والإنساني، وهذا ما لم نشاهده في باب الحارة». وإنْ كان قد علل ذلك بأن التناول كان مقتصرا على حارة خاصة ذات وضع خاص.

حتى الشيخ صلاح كفتارو انتقد تصوير المرأة بهذه السلبية والخضوع المطلق، وقال وهو يتحدث عن حفل التكريم الذي سيقيمه لفريق «باب الحارة»: «سوف أبدي ملاحظاتي في حفل التكريم، ولا بد لكل عمل أن تكون فيه أخطاء. هناك مغالاة في النظر للمرأة بأنه لم يؤخذ رأيها، وأنه لم يكن لها أي دور في أي قضية. يجب أن نتوخى الحذر في أعمال قادمة بأن المرأة أخذت دورها وحقها» كما نشرت «العربية نت»، وان كان قال إن اللبس النسائي القديم كان كما قدمه المسلسل.

سواء بالغ المسلسل في تصوير المرأة الشامية القديمة، او لم يبالغ، فإن الأكيد انه خاطب رغبة دفينة عند رجال اليوم الذين يبحثون عن امرأة تابعة وغير مزعجة ولا مناقشة، ولكن امرأة اليوم لا ترى فيهم حماية أبو شهاب و«حنية» أبو عصام، ولا أسوار الحارة التي تلم شعهثا وتسترها عن عيون الآخرين، ولا ترى تكافل أهل الحارة مع الضعفاء والعاجزين عن الكسب.

الحق، إن تفاعل الناس مع المسلسل أهم من المسلسل نفسه، وهو الحدث والقصة، لأن هذا التفاعل كشف عن مستوى الفوضى في القيم الاجتماعية وحجم الهوة بين شروط ومقتضيات العيش في هذا العصر، وبين الحنين إلى ماض كانت فيه الشروط الاقتصادية مختلفة عنها اليوم، وبالتالي كان نمط العلاقة بين الرجل «المنتج والعائل» وبين المرأة «المنتج لها والمعالة» مختلفا وقائما على التبعية ومقتضيات الإعالة.

وهي فوضى وهوة تسري على أنواع أخرى في شبكة العلاقات الاجتماعية، كما ما بين الأب والابن، وما بين الجار والجار، وما بين القريب والقريب... الخ.

كلها علقت بين مواصفات الماضي ومتغيرات الحاضر، والعراك قائم بين من يريد ابقاء الماضي كما هو، رغم زوال شروط وجوده القديمة، وبين من يريد صيغة اخرى تولد من رحم الشروط الجديدة، ولأن العراك لم يحسم فإن الحل يكون دائما «تلفيقيا» ولا أقول «توفيقيا»، فنرى أمامنا هجينا من هذا وذاك، أو خليطا من نساء الحارة ونساء العمارة !

الحنين، المكبوت بهيمنة التغيرات وتسارعها، يخرج فجأة عن كل قيد، ويعبر عن نفسه وتوقه الى حضن القديم وذعره من مغامرة الجديد، بشغف كشغف الناس إلى باب الحارة، لأن الجميع، او أكثرهم، لا يريد الخروج من باب الحارة !