عن الوصاية والاحتلال: نصف الكوب الآخر

TT

«نتحدث حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، والعراقيون يتحدثون عن العدل والشرف».... جاء هذا التعليق، من الليفتنانت كولونيل ديفيد كيلكولين خلال سمنار الشهر الماضي حول مكافحة التمرد في العراق، ويمكن اعتباره بداية حكمة لأميركا تحاول إصلاح أضرار السنوات الأخيرة. وهي حكمة لا تنطبق على العراق فحسب، بل على مجموعة من المشاكل في عالم يحاول الاستماع إلى مكبر الصوت الاميركي.

الكرامة، وليس الديمقراطية، مسألة تثير وتغضب بلايين الناس حول العالم. عندما يتحدث الرئيس بوش وهو يبشر بالقيم الديمقراطية، فإن الحديث يكون ضمنا بمثابة تأكيد على قوة أميركا. والرسالة المتضمنة هي انه يجب على دول أخرى ان تكون مثل أميركا، وانه يجب عليها إبدال مؤسساتها وقيمها وعاداتها لتحل محلها مؤسساتنا وقيمنا وعاداتنا. إلا أن الناس في الطرف الآخر يشعرون بأن التعامل معهم ليس فيه أي نوع من الاحترام. هذه هي الصعوبة التي برزت عندما ضغط مجلس النواب الاميركي على تركيا لحملها على الاعتراف بأنها ارتكبت عمليات إبادة ضد الأرمن قبل 92 عاما. لا أود القول إن هذا المطلب خاطئ. فأنا اميركي من أصل ارميني، كما إن بعض أقاربي قضوا في تلك المذابح. اتفق مع قرار الكونغرس، لكنني أدرك أن هذه مشكلة يجب على الأتراك التوصل إلى حل بشأنها. إنهم أسرى ماض لم يستطيعوا بعد القبول به.

وفي سياق الحديث حول «أجندة الكرامة»، يقول بريزينيسكي، المستشار السابق لشؤون الأمن القومي، في كتاب جديد صدر له بعنوان «فرصة ثانية» إن أفضل أمل لأميركا هو أن تنضم إلى ما أطلق عليه «الصحوة السياسية الكونية»، ويقول في هذا السياق: «في عالم اليوم غير المستقر تحتاج أميركا إلى أن تكون جزءا من مساع في سبيل كرامة إنسانية عالمية، وهي كرامة تجسد الحرية والديمقراطية، وتتضمن أيضا احتراما للتنوع الثقافي».

وبعد أن أشرت إلى أفكار برزينسكي حول فكرة الكرامة في عمود سابق بعث لي قارئ دراسة كتبها الفيلسوف أشعيا برلين عام 1961 وفيها أكد هذه النقطة. فبرلين الذي كان يتشكك بكل الأيديولوجيات حاول أن يفهم تصاعد الروح القومية على الرغم من وقوع حربين عالميتين. وكتب في دراسته: «الروح القومية تتفشى من جرح أو من إحساس جريح للكرامة الإنسانية، الرغبة في اعتراف الآخرين بها». وأضاف برلين: «ما عادت مسألة الأمن الاقتصادي أو العجز السياسي التي تقمع مخيلة الكثير من الشباب في الغرب اليوم، بل هو الشعور بالالتباس تجاه مكانتهم الاجتماعية، والشكوك حول الطرف الذي ينتمون إليه، وإلى أين يتمنون الانتماء».

آخر الكتب التي اقترحها حول الكرامة هو «السياسة العنيفة» للمؤرخ ويليام بولك، وفيه يختبر 10 تمردات جرت خلال التاريخ، ثم ليصل إلى نتيجة مثيرة للدهشة تذكرنا بالعراق: الشعوب لا تحب أن تُخبر ما يجب فعله من قبل الأغراب. وقال: «وجود الأجانب يحفز على الشعور بالانفصال أولا ثم أخيرا الشعور بتجانس المجموعة». يذكرنا بولك في كتابه قائلا: سيحارب الناس للمحافظة على شرفهم خصوصا حينما لا يمتلكون شيئا بقي على قيد الحياة. وهذا كان درسا قاسيا للإسرائيليين الذين أملوا أنهم سيتمكنون بعد 30 عاما من عصر الفلسطينيين كي يقبلوا بسلام عقلاني. إنه لأمر معذب الآن بالنسبة للاميركيين من أصل أرمني مثل حالي حينما نرى تركيا ترفض إعادة النظر بطريقة عقلانية لتاريخها. لكن الحكومات الأجنبية تحاول جعل الشعوب تقوم بما هو صحيح. لكن لأن ذلك لا يعمل فعليهم أن يقوموا بذلك بأنفسهم من دون وصاية من أحد.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ

خاص بـ«الشرق الأوسط»