سركوزي وبوتين: قشة إيران تغرق باريس

TT

كل البوادر تشير إلى أن مهمة سركوزي في روسيا فشلت. فلا هو استطاع أن يُلين موقف الجانب الروسي فيما يخص الملف الإيراني ولا حتى استطاع أن يُعيد العلاقات إلى ما كانت عليه من سابق مودة في عهد شيراك. والى ذلك بدأ يتكشف للرأي العام داخل وخارج فرنسا فارق الليل والنهار بين السياسة الخارجية الفرنسية القديمة والحالية لحد لم يبق فيه مجال للمقارنة.

جاءت هذه الزيارة كحلقة جديدة من حلقات مسلسل الضغوطات الفرنسية على إيران بخصوص الملف النووي، وأحدث ما يُنظم من مساع حثيثة من أجل توحيد موقف الدول الأوروبية لفرض عقوبات اقتصادية على إيران. لكن نشاط الدبلوماسية الفرنسية يبدو في اتجاه تصعيد لهجة التهديد وبدل أن يكون كوشنير حمامة سلام كما عاهدناه من الفرنسيين الذين غالبا ما كانوا يلعبون دور الوسيط فإن وزير الخارجية الفرنسي يبدو وهو يتحمس للملف الإيراني كمن يدق طبول الحرب وقد كانت تصريحاته السابقة للصحافة الفرنسية التي وصلت لحد التلويح بإمكانية شّن حرب على إيران ـ إن هي استمرت في عنادها للمجتمع الدولي ـ قد أثارت عليه ثائرة الطبقة السياسية التي تمنت لو أن الطبيب لم يدخل مجال الدبلوماسية قط...!

كوشنير لا يبدو عابئاً الآن بنتائج مفاوضات محمد البرادعي مدير وكالة الطاقة النووية مع الإيرانيين بقدر ما هو مهتم بحشد تأييد أصدقائه وجيرانه الأوروبيين، بغرض تشديد الخناق على إيران في انتظار حمل ملفها النووي على مائدة المجتمع الدولي. المفروض أن استجابة الترويكا الأوروبية: ألمانيا، بريطانيا وفرنسا والدول الأخرى مضمونة مائة بالمائة، وإن كان حماس الألمان والإيطاليين أقل من حماس البريطانيين إلا أن نفوذ فرنسا داخل المجموعة الأوروبية لا يمكن إلا أن يزن بثقله في هذه المسألة.

المشكلة التي تواجه الفرنسيين توجد مع الروس، الذين لا يعارضون فقط مسألة العقوبات الاقتصادية مقّسمين بذلك موقف أوروبا بل وينافسونهم كذلك على الساحة الدبلوماسية ويقترحون تخصيب اليورانيوم الإيراني على أراضيهم كحلّ للمشكلة. بهذا يكون تّدخل فرنسا بين روسيا وإيران لم يأت بثماره، فالعلاقات الروسية الإيرانية تعرف تحسنا كبيرا منذ تولي بوتين مقاليد الحكم سنة 2000، وحجم التبادلات التجارية بين البلدين ما ينفك يتزايد، بالذات في المجال العسكري حيث قدرت الأرباح التي جنتها روسيا من بيعها أسلحة لإيران حسب مصادر روسية بحوالي ستة مليارات دولار، أهمها ما حصلت عليه إيران من صواريخ الثور م 1 التي تحتفظ بها لردع أي هجوم على المواقع النووية بعد أن استفادت من التقنية الروسية في بناء محطاتها النووية «توبير».

وفي مقابل هذا فإن العلاقات الفرنسية الروسية تعرف أصعب أيامها وهو ما جعل الرئيس الفرنسي يقصد الكرملين في محاولة لجّس النبض ومحاولة إعادة المياه لمجاريها بعد البرود الذي أصبح يُخيم على العلاقات الثنائية بين البلدين منذ وصوله للحكم. الروس يقولون إن ما جاء بالرئيس الفرنسي هو حاجته للغاز الروسي بعد أن يئست فرنسا من حصولها على أي امتياز في الجزائر التي تشترط لغاية الآن اعتذارا رسميا عن جرائمها إبان الحرب وإلغاء قانون تمجيد الاستعمار الذي وضعته سنة 2005، الشيء الذي ترفضه فرنسا بشدة على لسان رئيسها الجديد.

لكن الأكيد، أن فرنسا دخلت مع سركوزي عهدا جديدا من العلاقات لا يشبه في شيء ما كان يميز عهد الرئيس شيراك من علاقات طيبة مع الروس بل ومن تحالفات قوية. أهم رموزها كان تشكيل محور برلين ـ موسكو ـ باريس كقطب موحد في مواجهة المواقف الأمريكية في الحقبة ما بين 1995/2003، حتى أن بوتين كان من زعماء العالم المقربين إلى شيراك ولا تفوت مناسبة إلا وكان من بين المدعوين.

اليوم وقد تغيرت المعطيات فإن الفرنسيين والروس على خلاف على طول الخط، خاصة وأن هؤلاء لا يُحبذون من يعطيهم دروساً في مجال حقوق الإنسان وقائمة الانتقادات التي توجهها فرنسا لروسيا بخصوص هذا المجال أصبحت تطول وتطول. ما زاد الطين بلة أن سركوزي أصّر على موقفه هذا حين استقبل منظمات حقوق الإنسان الروسية أثناء زيارته الرسمية الأخيرة لهذا البلد لأول مرة في تاريخ العلاقات الثنائية ـ حتى وصفته الصحافة الروسية «بالغرور والغباء»، فهو يتّودد من جهة ويهاجم من جهة أخرى. بيد أنه ليس أول خلاف بين الدبلوماسيتين الفرنسية والروسية وقد سبقه إليه الصدام الذي وقع بين الاثنين حول قضية استقلال كوسوفو الفكرة التي يتبناها كوشنير ويتّحفظ عليها الروس بشّدة.

وإن كانت مساعي كوشنير في هذا الاتجاه لم تعط شيئا بعد إلا أنه ـ داخلياً ـ بُدئ فعلا بتحضير الأجواء والأذهان لفكرة الحصار الاقتصادي. فقد صدرت مؤخراً من وزارة الخارجية مذكرة تشمل بعض «النصائح» كما يسميها مسؤولو «الكي دُورسي» للشركات الفرنسية بتقليل نشاطها وتأجيل استثماراتها في إيران، والأرجح أن هذه النصائح لن تجد لها الآن آذانا صاغية ببساطة لأن حجم الاستثمارات الفرنسية في إيران ليس بالهيّن، فهو يُقدر بملايير اليوروهات ورغم أن المؤسسات الفرنسية المتواجدة فعلا في إيران لا تتعدى الخمسين إلا أن شركات عملاقة للنفط والغاز كتوتال وغاز دوفرانس قد وضعت أقدامها في إيران منذ مدة. فشركة توتال مثلا تستثمر في مجال النفط منذ ما يزيد عن خمس سنوات أما شركة غاز دو فرانس فهي بصدد التفاوض من أجل إقامة مصنع للغاز في جنوب البلاد. أما شركة رونو لصناعة السيارات فقد ضّخت لحد الآن ما يفوق الـ300 مليون يورو كبداية تنوي تعزيزها فيما بعد. وكذلك تفعل شركة بوجو لصناعة السيارات التي أصبحت تُمول اكبر شركتين لتركيب السيارات في البلد: «إيران خودرو» و«سَيْبا»، مع أن ما يمكن أن يخسره المستثمرون الفرنسيون في حالة حدوث حصار قد يبدو ضئيلاً مقارنة بما يمكن أن يحدث من مشاكل وأزمات اقتصادية قد لا تُحمد عقباها في حالة التهاب أسعار البترول.

المحاولات الفرنسية من أجل تشديد الحصار على إيران تبقى ناقصة ما دام الروس مُصّرين على معارضتهم وواشنطن على موقفها المتّردد وهي التي أصبحت تحسب ألف حساب للدور الإقليمي لإيران وتخاف على جنودها في العراق وربما أيضا على إسرائيل في حالة التهاب الوضع.

كما ان المهمة من المؤكد ستضُّر أولاً وأخيراً بالدبلوماسية الفرنسية الجديدة التي بدت مع سركوزي وكوشنير أقل بريقاً وتميزاً.

* كاتبة جزائرية

مقيمة في باريس