العالم العربي: خمسة متغيرات إيجابية

TT

الأخبار والمتغيرات التعيسة في بلادنا العربية كثيرة وبلا حصر، وفيها من العمق والانتشار ما يكفي لخلق حالة من التشاؤم الدائم، وحتى مقاومة كل ما هو إيجابي باعتباره نوعا من السراب وخداع البصر. ولكن مثل هذه الحالة ليست من طبائع الأشياء، وفي الفلسفة الجدلية فإن الإيجابي يولد دائما مما هو سيئ، ومع العسر يوجد دائما يسر، وفي عنف الثورة تظهر دائما الحاجة إلي الاعتدال.

ومع ذلك فإن الصورة ليست قاتمة كلها، فوسط ذلك كله ترتفع أسعار النفط ارتفاعا حقيقيا لأول مرة منذ مطلع الثمانينيات بحيث يصل سعر البرميل إلى 80 دولارا. هذه الحقيقة وفرت ثروة حقيقية ليس فقط للدول العربية المنتجة للنفط، بل لكثير من الدول العربية الأخرى. وهذه المرة فإن استخدام الفائض النقدي يبدو أفضل حالا من المرات السابقة، فقد ارتبط بسياسات اقتصادية تطلق حرية السوق ومبادرة الأفراد. ولم تكن هناك صدفة أن مصر والسعودية تصدرت الدول العشرة الأولى في تقرير إنشاء الأعمال الصادر عن البنك الدولي. ولأول مرة منذ وقت طويل يعرف العالم العربي معدلات للنمو تترواح بين 5% و7% على الأقل في عدد من الدول. وفي وقت من الأوقات كان يوجد في الدول العربية الخليجية نموذج واحد للانطلاق الاقتصادي هو نموذج دبي، ولكن هذا النموذج، بعد تعديلات تناسب مقتضى الحال، أخذ يمتد لبقية الإمارات العربية المتحدة، وقطر والبحرين والكويت، أما السعودية فقد خلقت نموذجها الخاص الذي يتناسب مع دولة كبيرة العدد والمساحة.

أما التغير السياسي الموازي للمتغير الاقتصادي، فقد كان ظهور ما يمكن تسميته بالديمقراطية الإسلامية، وهي تسمية مشابهة لما جرى في الديمقراطيات الغربية تحت اسم المسيحية الديمقراطية. وحتي وقت قريب فقد كان عدد من الدول العربية قد بات واقعا تحت اختيار صعب، بين الديكتاتوريات البيروقراطية بأشكالها المدنية والعسكرية، والفاشيات الدينية الراديكالية، وكان الاختيار صعبا بين النار وجهنم الأخرى. ولكن ظهور الإسلاميين الديمقراطيين علي هذه الشاكلة في تركيا قد أشار إلى إمكانيته في الدول العربية، وعندما احتل حزب العدالة والتنمية المغربية المكانة الثانية بعد حزب الاستقلال في الانتخابات المغربية، فإن ذلك وضع قاعدة أن الأحزاب المتأثرة بفكر الإخوان يمكنها أن تفوز كما جرى في فلسطين، كما أنه من الجائز لها ألا تحقق نفس النتيجة وتفوز أحزاب أخرى. وفي نفس الوقت فإن أحزاب إسلامية أخرى في العراق وسوريا اتبعت مناهج ديمقراطية وليبرالية صريحة انطلاقا من قواعد إسلامية لا تجد غضاضة في اعتناق كل ما هو خير وطيب في التطور الإنساني. صحيح أن هذا التغير قد تعرض لنكسة عظمى في البرنامج الأخير الذي صدر عن جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وعبر عن دولة فاشية في المظهر والمخبر؛ إلا أن النقاش والحوار اللذين جريا حول هذا البرنامج في مصر يبشران بالتغيير في المستقبل غير البعيد.

وربما كان جزء كبير من حالة التشاؤم السارية في العالم العربي راجعا في جزء كبير منه إلى الغزو الأمريكي للعراق وما نتج عنه من انهيار كامل للدولة العراقية. وكانت الأخبار التعيسة عن العراق، ولا تزال، نوعا من الغذاء اليومي حول عدد القتلى، والعربات المفخخة، والانتحاريين الذين يجدون لذة في الاستشهاد علي جثث الأطفال والنساء والعجائز. ولكن كل ذلك قطعته أخبار إيجابية نتجت أساسا، مما يمكن تسميته بثورة السنة في المناطق السنية حينما وجدت القبائل أن الاختيار المفروض عليها بين قبول الاحتلال علي جانب والفاشية الدينية والبعثية على جانب آخر ليست اختيارا علي الإطلاق. وبشكل من الأشكال خلق ذلك بداية للإنقاذ في العراق حيث تباطأت عمليات التطهير العرقية، وهبط عدد القتلى، وبات ممكنا لأول مرة زيادة ساعات وجود الكهرباء، والقيام بعدد من المشروعات الاقتصادية، بل ان نوعا من تقاسم الثروة دخل في دور التطبيق، ولأول أمر أعلن الأمريكيون عن تخفيض قواتهم مع نهاية العام بدلا من زيادتها. مثل هذا لا يمكن حتى الآن اعتباره في حساب التغييرات الكيفية التي تقلب الحالة العراقية رأسا علي عقب، ولكنها أخبار طيبة لم يكن هناك مثيل لها منذ وقت طويل.

وفي فلسطين حيث يوجد قلب الألم العربي، فإن التعاسة كانت غلابة طوال السنوات الأخيرة وبالتحديد منذ فشل مؤتمر كامب دافيد في صيف عام 2000 وما تبعه من انتفاضة. وبشكل ما فإن ما بدا وكأنه دولة فلسطينية في طريق التكوين خلال التسعينيات فقد جرى تمزيقه بالاعتداءات والمستوطنات والطرق الإسرائيلية، وحتي داخل فلسطين نفسها وصل اليأس بالناس إلي انتخاب القوة السياسية التي وقفت في وجه قيام الدولة واستقلالها طالما أنها لا تؤدي إلي عودة كل اللاجئين ولا تقوم علي كامل التراب الفلسطيني. وعندما بدا ذلك مستحيلا، وبدا الأمر الواقع بشعا للغاية، وانقسمت النخبة السياسية الفلسطينية علي حالها بين مؤيد للعملية السلمية ومعترض عليها، قامت حركة حماس بانقلابها المعلوم في غزة، وساعتها كانت اللحظة أبشع لحظات التاريخ الفلسطيني حيث وصلت القضية إلى طريق مسدود تماما. ولكن جدل التاريخ كان دائما له منطقه الخاص، فقد جاء انفصال حماس بغزة تحريرا لإرادة السلطة الوطنية الفلسطينية، وزوالا للقيود التي فرضتها حماس على السلطة سواء كانت في المعارضة، أو عندما باتت في السلطة وأصرت على رفض الاعتراف بالاتفاقيات الفلسطينية السابقة. هذا التحرير لإرادة الحياة الفلسطينية جعل ممكنا وجود مفاوضات مرة أخرى لإنقاذ ما تبقى من فلسطين، والحفاظ على الطاقة الحيوية للشعب الفلسطيني داخل أرضه. وفوق ذلك بات ممكنا أن يحدث ذلك من خلال اجتماع دولي لكي يقوم العالم بواجباته تجاه القضية، ومن ثم اجتمعت إرادة الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، على اللقاء في النصف الثاني من نوفمبر القادم لإطلاق عملية سلام حول مبادئ أساسية سوف يتوصل لها الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي قبل انعقاد المؤتمر.

كل هذه المتغيرات ارتبطت بتغير آخر جرى في الولايات المتحدة عندما صوت الشعب الأمريكي على الإطاحة بالأغلبية الجمهورية في الكونجرس، وبات منطقيا معه تغيير السياسة الأمريكية نفسها. وفي البداية جاء التغيير من خلال الاستماع إلى آخرين كانت الإدارة الأمريكية ترفض الاستماع لهم، فجاء تقرير بيكر ـ هاملتون، ثم تبعه خروج جماعة المحافظين الجدد واحدا وراء الآخر من الإدارة الأمريكية حتي لم يبق إلا عدد محدود في المقدمة، منهم ديك شيني نائب رئيس الجمهورية الذي اختفي تماما من الصورة، ومع هذا وذاك بدأت السياسة الأمريكية في التغير في المنطقة، فبات الانسحاب من العراق ممكنا، وبعد سنوات من رفض التعامل الجدي مع القضية الفلسطينية ظهرت فكرة عقد الاجتماع الدولي. ولأول مرة منذ وصول إدارة بوش إلى السلطة لم تتوقف فقط عن خلط الآيديولوجية بالسياسة، بل انها توقفت أيضا عن خلط الاستراتيجية بالتاريخ، فباتت الديمقراطية جزءا من عملية تاريخية تخص شعوب المنطقة، أما العمل السياسي فبات يخص قوى وتيارات ودولا محددة. وفي وقت من الأوقات كانت أوروبا هي التي تقدم العقل في مسائل الشرق الأوسط، أما الآن فيكفي أن تراجع ما يقوله بوش وما يقوله ساركوزي حتي تعرف أن بقاء الأحوال، كما يقال، من المحال!