الهرب إلى عالم الكلاب!

TT

شيء مخيف الذي يحدث في عالم اليوم، من تشوهات اجتماعية جعلت الجميع ينظر بجزع، ويفكر متوجسا مما تخبئه الأيام في جعبتها. عنف اجتماعي، تفكك أسري، انهيار للروابط الانسانية بين الأفراد داخل المجتمعات، الصغير لا يحترم الكبير، والكبير لا يبالي بالصغير، الكل يجري في طرقات الحياة، لاهثاً، مضطرباً، همه الأوحد الاستحواذ على أكبر قدر من فرص الحياة، حتى لو كان على حساب أسرته، معتقداته، مبادئه. كل يوم يعرض الإعلام بمختلف مصادره حوادث تُدمي القلب.. أب وأم يسجنان طفلتهما التي لم تتجاوز سنواتها الأولى في دورة مياه وسط القاذورات، لتبقى هناك حتى نجحت الشرطة بإخراجها، في حالة يرثى لها إلى أحد المستشفيات للعلاج. وأب يغتصب ابنتيه مرات عديدة، وهما اللتان في بداية مرحلة المراهقة، حتى فضحته إحداهما وزجّ به في السجن. ومراهق يقتل أمه، لأنها منعت عنه المصروف، خوفا من انخراطه مع رفاق السوء. وشاب يقتل والده، لأنه رفض زواجه من فتاة رغب في الارتباط بها. وآخرها عثور الشرطة على طفل في العاشرة من عمره، ألقى به والداه إلى الشارع منذ بضع سنوات، وعاش بمغارة مع قطيع من الكلاب الضالة، التي كانت أحن عليه من والديه، وقاسمته طعامها، والغريب أن الطفل عندما عثرت عليه الشرطة، حاول الهرب منها مفضلا العيش مع الكلاب على العودة إلى عالم البشر، الذي لم يرحم طفولته!. وانتشرت في أرجاء العالم ملاجئ العجزة والمسنين، بعد أن أصبح الأبناء يضيقون بهم، ويرفضون تحمّل أعباء معيشتهم، والامتناع عن الانفاق عليهم، حتى أضحت الشيخوخة شبحاً مخيفاً يتوجس منه كل امرئ تقترب قدماه من هذا الخط البارد، الذي تحمل رياحه في طياتها الوحدة والصقيع، وعدم مبالاة أسرهم بهم، حتى صار الإنسان الذي يبلغ من العمر عتياً يشعر في قرارة نفسه أنه فرد لم يعد له مكان في مجتمعه، بل إن احدى الدول الاسكندنافية، اباحت قتل المرضى الميؤوس من علاجهم، بحجة إراحتهم من عذابهم الجسدي، وإن كان هذا التبرير الظاهر، يخفي أسباباً أخرى حقيقية، في التخلص من مصاريف علاجهم، التي تتطلب ميزانية ضخمة، بجانب رغبة أسرهم في التحرر من عبء رعايتهم.

وفي أحد الأقاليم باسبانيا صدر قانون، يحث على تبني جد للعائلة، كونه سيساهم مستقبلا في تخفيف النفقات التي تتحملها الدولة لرعاية المسنين والعجزة، الذين تخلى عنهم أبناؤهم أو احفادهم أو ممن ليس لهم أمر، كما سيساعد على فك العزلة التي يحياها المسنون في ملاجئ العجزة، التي ينتهي بهم الحال إليها في آخر المطاف، في مكان يلتهم مفاصلهم، ويُجمّد أفئدتهم، ويرميهم في سلة النسيان، بعد أن ماتت أدوارهم في الحياة بنظر أفراد مجتمعهم.

كما أنشئت في العديد من بلدان العالم، مؤسسات وظيفتها فقط الاستماع لأشخاص لا يجدون من يستمع لهم، ويرغبون بث همومهم، وإخراج ما في جعبتهم من مواجع، بمجتمعات لم يعد أصحابها يصغون إلا لأنفهسم.

انعدام التواصل بين الأجيال، ظاهرة عادية في مجتمعات العالم المتقدم، التي أخذت تهرول نحو بوابات العلم، دون أن تبالي بالروابط الاجتماعية، والنوازع الروحية، ودفعت ثمنا باهظا لتقدمها، من خلال رفع شعار الماديات، وتشجيع التواصل بين الأفراد على أساس المصالح المشتركة. هذه الوقائع الشاذة، بعد أن كانت مقتصرة عليهم، مالت بريحها علينا، وبات إعلامنا العربي يعرض كل يوم حوادث في مجتمعاتنا العربية، مشابهة لما يحدث في المجتمعات الغربية، على الرغم من تخلفنا الفكري والتعليمي، وعدم إحرازنا أي إنجازات تذكر على المستوى العالمي!.

كثيرا ما تدمع عيناي وأنا أتابع المشاهد التي تعرضها شاشات التلفاز، من وقائع متنوعة، لبشر قست عليهم الحياة، من نكران لجميل الآباء، وما قدموه من تضحيات على مدى سنوات طويلة، في سبيل ايصال ابنائهم لبر الأمان، من عنف استشرى بين الأفراد، حتى داخل الأسرة الواحدة، من انحسار النزعة الروحية في النفوس، متسائلة في حيرة عن سبب الانفصام الحاصل اليوم في المجتمعات!، هل يعود إلى انهيار مؤسسة الأسرة، وارتفاع معدلات الطلاق؟، هل طاحونة الحياة بكل قسوتها، أهرمت عواطف الانسان، ودفعته الى الدهس بقدميه على كل مشاعره من أجل أن يحيا في هذا العالم المتشبع بالماديات، ماذا يحمل الغد في طياته لمجتمعاتنا العربية، التي باتت أبواق الاضطرابات والفوضى تعج في حواريها وأزقتها؟، هل يجب حمل شعلة التفاؤل في نظرتنا للمستقبل، بينما نحن نرى أجيال الحاضر تدحر العواطف، وتستهين بالروابط الإنسانية؟، لماذا تزداد الفجوة اتساعا بين جيل الماضي وجيل الحاضر؟ هل من العدل أن نشير بإصبع الاتهام إلى الأجيال الجديدة؟، هل من الإنصاف أن ننفي المسؤولية عن جيل الأمس، الذي كان يتوجب عليه مد خيوط من الحوار الفكري بينه وبين جيل اليوم؟ أين يكمن الخلل؟ في أولئك أم في هؤلاء؟ هل الحاضر بكل سلبياته، أدى إلى قذف طموحات الشباب في قاع المحيطات، وفي الاستهزاء بكل القيم والمثل، مما جعلهم يوقنون أن المستقبل بكل قتامته ليس لهم؟، كيف يمكن أن ننشئ أجيالاً سوية، غير مضطربة نفسيا؟، كيف يمكن تربية الأجيال القادمة على أن احترام جيل الأمس لا يعني البخس بهم، وأن من الممكن التواصل بينهما، من دون طمس هوية أحدهما على حساب الآخر؟.

لقد تربت مجتمعات اليوم على الانعزالية في كل شيء، بدءا من تحييدها داخل نطاق أسرتها، وانعدام لغة الحوار بينهما، ونهاية بإبعادها عن قضايا أمتها داخل أوطانها، حتى فقدت الإحساس بالتواصل مع غيرها، وتاهت هويتها الإنسانية. أتذكّر وأنا صغيرة، كان أبtس@لسني أنا واخوتي حوله في حلقة دائرية، ويقصّ علينا حكايات عن طفولته ومراهقته، وكيف كانت الحياة قاسية وصعبة في السعودية قبل اكتشاف النفط، مع هذا كان الجميع لا يجرؤون على الانفصال عن بيت العائلة، وكانوا يعملون من خلال رب الأسرة الكبير، ليس هناك شيء خاص لهذا أو ذاك، كان الترابط الأسري قوياً، ولا يملك أحد جرأة الاعتراض على أي قرار يتخذه راعي الأسرة، ثم يتنهد قائلا: رحم الله زماننا! اليوم بعد أن كبرت وبهتت هذه الذكرى في خاطري، تعود إلى السطح بين حين وآخر وأنا أرى ما أرى، وأسمع ما أسمع، متسائلة بصوت خفيض.. هل من الممكن أن يجحد يوما أبنائي بعطاءاتي التي قدمتها لهم؟، استعيذ من الشيطان، موقنة أن الترابط الأسري، والتربية السليمة، والتوجيه الصحيح للأبناء، خير وقاية للمرء مهما تقلّبت به ظروف الحياة، ونالت منه مرات ومرات. في النهاية زاد العمر هو الضمان الأصلي لحيوات البشر.